01
ماي
10

موعدٌ مع فينوس ..



لطالما سخروا من شادي .. شادي العاطفي الرقيق كالفتيات في نظرهم .. لذلك ترون شادي وحيداً في أغلب الأحيان , عندما يصادق المرء نفسه يصبح بمنأى عن سخرية الآخرين و همساتهم .. هو اليوم – و بعد فشله    الذريع في العمل في بلاد الخليج – يعمل في مكتب الشحن العائد لخاله .. عمل مريح جداً و مناسب خصوصاً إذا علمنا أن له طاولة أنيقة في صدر المكتب و أن عليه فقط أن يقوم بتوجيه العمال و القيام ببعض  الحسابات و الجدولة على جهاز الحاسوب أمامه ..

يستقيظ باكراً جداً كي يوصله أخوه الطبيب بسيارته قبل ذهابه إلى المشفى , ساقه مكسورة من بعد قصة قشرة الموز إياها لذا فهو لا يستطيع ركوب المواصلات العامة ..

” لك يا ابني و الله قعود و ارتاح لبين ما تطيب .. خالك ما بدو شي منك بهالظروف ” .. تكرر أمه هذه الأسطوانة كل صباح حتى اعتادها كفنجان القهوة و صوت فيروز ..

هو لا يريد الانفراد بنفسه .. ” ألم تفهموا هذا بعد ؟” .. مالذي استفاده من وحدته في الغربة سوى المزيد من العقد النفسية التي أضيفت إلى أطنان العقد السابقة ؟ إن صاحبي النفسيات الهشة لهم في تعاسة حقيقية .. لا  يستطيعون الاندماج بالآخرين و لا يستطيعون التأقلم مع ذواتهم !

هذا الصباح كما كل الصباحات الماضية .. الجلوس وراء المكتب دونما حراك و تمضية الوقت وراء شاشة العالم ( كما يسمي الحاسوب ) ريثما يأتي العمال في التاسعة .. فنجان القهوة الثاني و الشرود و الرسومات  اللاإرادية على الورق الأبيض أمامه .. بما أن طاولته كانت مواجهة لزجاج المكتب , أتاح له ذلك مراقبة الناس وهم يذهبون إلى أعمالهم .. هوذا الطفل الصغير ذو القبعة المضحكة ينتظر و أبيه “باص” الروضة ..  يأتي في السابعة و الثلث عادةً , و هاتان هما البنتان التوأمتان ذوات الجدايل بمريولة المدرسة الزرقاء تمسك كل منهما يد الأخرى ” من المؤكد أن أمهما قد أوصتهما بعدم إفلات بعضهما و إلا سيأكلهما العو ! هههههه  ” هكذا فكر .. عندما تقترب الساعة من الثامنة يصبح المشهد أكثر إثارة .. يصبح الرصيف أكثر ازدحاماً و الناس أكثر سرعة .. يرى عندها الرجل الخمسيني الذي يشكل خصره محيط دائرة .. كل ما فيه يشي بأنه  موظف حكومي .. موظف حكومي مرتشي .. نعم .. فعينيه الماكرتين تفضحانه , الآن يركض كعادته إلى موقف الباص والدائرة تترجرج .. ” يا إلهي .. أي معمل ينتج هذه النسخ كلها في هذا البلد ؟ أكاد أقسم أني  أرى هذا الرجل 500 مرة يومياً ! ” …

هناك أناسٌ لهم مواعيد محددة كل يوم و أناسٌ لا .. مثلاً تلك الفتاة الرقيقة و الواضح أنها جامعية تظهر كل يوم في موعد مختلف .. هي رقيقة كزهرة … لا يعرف لمَ تذكره بفينوس , فينوس ترتدي كنزة صوفية و  بنطال عصري .. تقطع كل يوم الشارع باتجاه رصيف المكتب و هنا يشيح ببصره دائماً لأنه لا يحب أن تراه ينظر إليها .. ثم يرفع رأسه بعد هنيهة ليراها قد اختفت .. اليوم قرر أن بتصرف بشجاعة و يتأملها عن   قرب عله يستطيع رسم ملامحها فيما بعد .. تقترب و تقترب .. ” رباااه .. كيف استطاعت الرقة أن تمشي على قدمين ؟ رفقاً بها أيها العالم القاسي ” .. و هنا لم يصدق عينيه ! لقد توقفت لأجزاء من الثانية و نظرت  باتجاهه عبر الزجاج .. أجزاء من الثانية كانت كافية لكي يلاحظها و كي يتزلزل عالمه الداخلي .. هذه الفتاة تنظر إليه !

 أصبح لشادي مبرراً آخر كي يستيقظ باكراً .. إنه على موعد مع فينوس !.. يجلس وراء الطاولة و ويدير الراديو على أغنية رقيقة لفيروز و يتأمل .. كل يوم تقف لأجزاء من الثانية و تنظر باتجاهه .. البارحة لوح  إليها بيده فلاح شبح ابتسامة خجولة عى وجنتيها وأكملت طريقها .. هو يحب الفتيات الخجولات اللواتي أصبحن نادرات في هذه الأيام .. لقد حفظ مواعيدها بدقة و صار يعد الأيام كي تشفى ساقه ليعبر الحاجز  الزجاجي و يهديها القصيدة التي يجهد في تأليفها في أوقات الملل …

 

هل انشقت السماء و هُدت الجبال ؟

هل طوّت البحار و تلاشى كل المال ؟

هل انتحر القمر ؟ هل ازرق الشجر ؟

إذن لماذا أنتِ هنا ؟ يا .. فينوس ..

*****

هل تغير وجهي ؟ هل نسيت اسمي ؟

هل توفي حظي ؟ هل فقدت عقلي ؟

هل بكى السحر ؟ هل فني السمر ؟

إذن لماذا أحببتني أنا ؟ يا .. فينوس ..

 

 لقد صار في حياة شادي معجزة .. لقد اهتمت به فتاة و أخيراً .. هو الذي كان يعتقد بأن الفتيات يفضلن النظر إلى صرصور مقتول على النظر إليه .. لا يعرف سبب عزوف الفتيات عن الحديث معه .. هل هو أنفه  الطويل ؟ أم عيناه المنهكتان ؟ أم شحوبه المرضي الناتج عن متلازمة وراثية في الكليتين لاذنب له فيها .. ” ليس ذلك يا أحمق .. بل لأنك جباااان ” قالها له أحد أصدقائه القساة .. و عرف فيما بعد أن السبب كذلك ..

 إذن لن يبقى جباناً للأبد .. هاهي ذي ساقه تتحسن و قصيدته قد بدأت تكتمل .. سينتظرها على باب المكتب و يصارحها بكل شيء , لقد تعب من التلويحات و الابتسامات ..

اليوم هو الموعد .. ! ضبط ساعته جيداً و وضع “الجل “على شعره – مع أنه يمقته – و حاول جاهداً إبعاد تلك النظرة المتعبة من عينيه .. يقف الآن أمام باب المكتب .. رأى الطفل الصغير يصعد إلى باص الروضة و  يلوح لأبيه .. التوأمتان اللواتي بدين أكثر قبحاً عن قرب .. الموظف المرتشي يهرول فتترجرج كرشه … إذن سوف تظهر فينوس الآن ..

كعادتها .. خجولة .. جميلة .. تنسدل خصلة الشعر على وجهها فتبعدها إلى ما وراء أذنها .. تنظر باتجاهه نظرة عابرة دون أن تتوقف هذه المرة .. عطرة كزهرة .. رقيقة كما يمكن للرقة أن تكون ..

” يا آنسة ” .. تلتفت إلى الوراء و تتوقف و بعينيها ألف سؤال .. يقترب منها و يقول : لقد ألفت لك قصيدة !

” عفواً ؟ ” ..

ارتبك قليلاً و قال : معك حق .. لقد تغيرتُ عليكِ بهذه الأناقة المبالغ فيها .. أنا ذلك الشاب وراء الطاولة الذي يبتسم لك كل يوم و تبتسمين له.. الحق أنك أجمل مما كنت أراك من وراء الزجاج ..

ردت بعد لحظة صمت و ذهول : إنت واحد وقح و قليل أدب !

أزاحت الخصلة من على وجهها بعصبية و استدرات لتمشي حثيثة الخطى دون أن تنظر إليه ..

صعقته المفاجأة و ألجمته الدهشة و استدار هو الآخر عائداً إلى المحل .. ليرى انعكاسه الكامل على زجاج المحل .. انعكاسه هو باصفراره و أنفه الطويل و عينيه المتعبتين الحزينتين .. ” إن زجاج المكتب من النوع  العاكس فكيف كانت تراك أيها الأحمق ؟ ” .. لقد كان يراها هو لكنها لم تكن ترى سوى نفسها .. هي أجزاء من الثانية كانت كافية لفينوس لكي تعيد تصفيف شعرها و الاطمئنان لجمالها .. لم  يكن يدري أن فينوس نرجسية إلى هذا الحد !

 هديل خلوف

30\4\2010


1 ردّ to “موعدٌ مع فينوس ..”


  1. 1 maria
    2010/05/01 عند 3:27 مساءً

    يا ما اصعب موقف شادي بس بالحياة بجد كتير احيان منفهم المواقف بطريقة خطأ وهالشي ممكن يرجعلنا جزء من ثقتنا بس لما نكتشف الحقيقة منستسلم بانكسار هديل بجد كتاباتك كتير رائعة صرت حب ادخل كل يوم لاقراهم


أضف تعليق


أقسام المدونة

عدد الزيارات

  • 27٬327 زيارة جميلة =)

إن كنت مهتماً بما أكتبه , يمكنك أن تسجل عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد =)

انضم مع 31 مشترك