22
أوت
21

رجلٌ من مدينتنا – غمّة خريف


استيقظ “أبو أحمد” متعكر المزاج على نفس ما نام عليه في الليلة الماضية، إنها من تلك الأيام التي يشعر فيها المرء بانقباض الروح من غير ما سبب واضح، حيث يغدو الإنسان فيها شديد الحساسية والتركيز على كل مالا يسر .. كملاحظة تلك البقعة مقشورة الدهان التي تتعلق بوقاحة في سقف الغرفة، أو اكتشاف أن الجيران في المبنى كلهم من أصحاب الدخل المتدني والحياة المتدنية مما يقود للاستنتاج الذكي بأنه شخصياً ينتمي إلى هذه الفئة .. وغيرها وغيرها من مظاهر البؤس. لكن صاحبنا “أبو أحمد” لا يسكن في منزل يحتوي على أية بقع مقشورة الدهان، حتى أنه لا يعرف حقاً من يسكن في المبنى فضلاً على أن يعرف ماذا يعملون أصلاً .. لقد استيقظ صباحاً ليعلن إلى نفسه أنّ “الله يلعن هالعيشة” دونما سبب مباشر ..- حميييييددةةة .. حضريلي فنجان القهوة..هرعت حميدة إلى المطبخ لتستل “ركوة” القهوة وتملأها بالماء، شعرت بالفخر وهي تتأمل الركوة ذات الزخارف الذهبية التي تذكرها على نحو ما بصبحياتها الجميلة البائدة مع جارات العمر والرضا .. لم يكن الحصول عليها بالسهولة التي يستحوذ المرء فيها على “ركوات” القهوة عادة، لقد اضطرت هي وأبو أحمد أن يعيشا ردحاً من الزمن تحت رحمة الآلة الكريهة ذات الأزرار التي تصدر أصواتاً معوية قبل أن تصب القهوة في الفنجان .. القهوة البنية “السايطة” التي لا تشبه أية قهوة قد عرفاها من قبل.. تنهدت “أم أحمد” وهي تبعد تلك الرؤى وغرفت ملعقة من البن شهي الرائحة ذي الهال.ازدرد الحاج “أبو أحمد” رشفة ساخنة حارقة وتمتم : اليوم أمر على “أبي صبحي” .. لابد أن في رأسه مشروع ما .. أعرفه نسناس ودوماً ما يكون في رأسه مشروع ما ..هزت حميدة رأسها موافقة، وهي تفكر بأن أمامها الآن ثلاث ساعات على الأقل من خلو البيت من “النق والسق”، يجب أن تستغلها جيداً بأن تخرج أعواد الحياكة فربما تنتهي اليوم من الكنزة الصوفية، ومن يدري؟ ربما تستطيع أن تفتح مشروع الكبة المؤجل عدة مرات هذا الشهر.وكما صار يعلم، انطلق الحاج ليقف في الموقف وينتظر الباص “282” كما علمه أحمد، “تذكر يا أبي أن تتأكد من رقم الباص جيداً قبل الصعود، فالباص الآخر الذي يقف عند هذا الموقف سوف يأخذك إلى مدينة مختلفة كلياً”.وكما في المرة الماضية، عدّ الرجل خمس محطات قبل أن يقرر أنه قد وصل إلى محطته المنشودة، اسم المحطة معقد وطويل شعر بالارتياح لسماعه.يرن “أبو أحمد” جرس الإنترفون ويحمحم عندما يسمع صوت امرأة، “هل أبو صبحي في البيت، أنا أبو أحمد” .. ويجده في البيت دائماً .. يأخذ الرجلان الدرب المستقيم ثم ينعطفان عند الناصية ليدخلان الحديقة .. وهناك يقضيان دوماً ساعات متواصلة في الحديث عن المشاريع اللانهائية التي سيقومان بها معاً ..نسيم بارد يمر في الشجرة الوارفة فوق الكرسي فتتساقط عدة أوراق تتراقص أمامهما في إعصار دائري قريب من الأرض حاملة معها إنذاراً مبكراً بالخريف .. الأرض العشبية تمتد واسعة بغطاء ملون بديع من أزهار منوعة لا يعرفان أسماءها .. فجأة اقترب منهما طفل يحمل كرته الصفراء وبدأ بحديث سريع منفعل معهما .. نظر الرجلان إلى بعضهما بعيون زجاجية غير فاهمة وسارع “أبو أحمد” بكلمات متعثرة وإشارات متداخلة بيديه أن يبين للطفل أنه لا يفهم لغته، تحول الطفل من الانفعال إلى البكاء الخائف واستمر بالكلام وهو ينظر في كل الاتجاهات .. ارتبك الرجلان وصارا ينظران في محيط دائرة بحثاً عن أحد ما قد يحمل عنهما كتفاً بفهم هذه اللغة العفريتية التي لم يفهماها يوماً .. بعد عدة دقائق مرهقة لاحت من بعيد امرأة مع كلبها ما لبثت أن هرعت مسرعة باتجاههما .. عوى الكلب بوجههما بعنف وتمتمت المرأة ببضعة كلمات غاضبة وهي تسحب الطفل، مع نظرات متفحصة لهما .. صعد “أبو أحمد” الباص عائداً وشعور الثقل لا يبارح قلبه، في الحقيقة فإن لقاءه مع صديقه لم يعدل مزاجه كما توقع بل زاد الأمر سوءاً .. قال له السائق جملة ما فهز “أبو أحمد” رأسه بحركة آلية يفعلها دوماً إذا ما توجه أحدهم إليه بالكلام بهذه اللغة ولم تكن النبرة سؤالاً .. أبرز بطاقته إليه كما يفعل عادة وتوجه إلى مقعده ..هاقد مرت خمس محطات والباص الآن يتوجه إلى المحطة السادسة، لكن الشوارع ليست بشوارع بيته ! بدأت كفه بالتعرق فوق البطاقة وبات الآن متأكداً أن خطأ ما قد حدث، أعاد النظر إلى رقم الباص فوجده مطابقاً للرقم المنشود .. لكن .. ماذا قال له السائق ؟!شعور الوحدة والضياع الذي لطالما شعر به وهو طفل متروك في دكان أبيه قد عاد إليه مجدداً وهو كهل في الخامسة والستين، الفرق هنا أنه لا يستطيع أن يتكلم، لا يستطيع أن يبكي .. وهو الأن في بلاد غريبة ..انتهت “أم أحمد” من البلوزة الصوفية ومن تقريص الكبة قبل أن تسمع صوت المفتاح في الباب .. لقد عاد زوجها لاهثاً مشتتاً بعد غياب النهار بكامله.. “هل عند أبو صبحي أي مشروع” ؟ قالتها الزوجة وهي تنتظر سماع الإجابة المعتادة بأن أبا صبحي ثرثار ليس عنده أية مشاريع .. لكن عينا زوجها تألقتا لثانية وهو يقول : عندي أنا مشروع ! مشروع استرداد لساني.. سوف نعود للبلد، للحارة .. !
(!)
وزالت الغمّة من صدر أبي أحمد ..

هديل خلّوف

24
أكتوبر
19

رجلٌ من مدينتنا – أسامينا


أنا إنسان بسيط جداً، وروتيني وموظف حكومي.. أجرؤ على القول أنّي تقدمي أيضاً لأنّي كنت منذ زمن ليس ببعيد قد اتخذت قراراً غير عادياً بالنسبة لمن حولي ولي شخصياً .. لن أسمي ابنتي المستقبلية من بعد اسم أمي أبداً!
سوف تقولون ألا أحد وبرأسه عقل قد يسمّي إبنة الألفية الثالثة اسماً ك”عيوش” وأن قراري هذا ما هو إلا كحجرة تنجرف بشكل طبيعي مع التيار النهري ولا تعانده.. لكنهم لا يعلمون أنّي صخرة منيعة ضد عوامل الزمن وتيارات الحياة!
لذلك قد حصل ما حصل في أمسية ذلك اليوم المنحوس وأرجو منكم أن تسمعوا حججي كاملةً قبل أن تهزوا الرؤوس وتصدروا الأحكام.
كانت زوجتي ذات البطن المتكور تُخرج الملابس الوردية وتعدها وتتأملها كهواية جديدة في الأشهر الأخيرة .. دربت نفسي على الاعتياد على هذا وكتم غضبي المتسارع، وصرت أتخيل أني أجلس وحيداً على شاطئ جزيرة نائية تحفّني أشجار شبيهة بالنخيل لكنها ليست بالنخيل، وتتراقص أمامي حيوانات تشبه الدلافين لكنها ليست بالدلافين و.. ثم مرقت كالسهم جملة مزقت غشاء الطبل في أذني !

“إيمتا رح أشوفك وتلبسي هالتياب يا مورانا !”
– أ.. مروانة من؟
– هاها هاااااااآ .. لقد ضحكت كما لم أضحك من قبل عند هالمسوية! مورانا مورانا .. لقد قررت أن أسميها مورانا !
– جيداء!! الاسم نقرره سويةً.. هكذا اتفقنا! ثم .. ثم ما قصة هذه المورانا ! ماذا يعني ومن أين أتيت به أصلاً؟!

وهنا هيأت نفسي لسماع القصة إياها، عن شيخ ملتحٍ يلبس الأبيض قد زارها في المنام وقال لها أن تسمي المولودة كذا .. أو أنها قد كانت تقرأ القرآن فوقعت عينها على الإسم في اللحظة التي رفست بها الجنين بطنها، ثم تذكرتُ أن لا وجود لكلمة مورانا في القرآن فضلاً عن أنه لو زارها في المنام شيخ يحترم نفسه فعلاً لنصحها أن تسمي ابنتنا على اسم أمي عوضاً عن كسران خاطرها.

– قرأت على الفيس بوك أن مورانا معناه في الإيطالية الزجاج الملون اللامع وفي الإغريقية معناه الفتاة الجميلة وفي اللغة الهندية هي ربة الجمال وفي ..
– أرجوك توقفي جيدااااء ! لا توجد هناك لغة هندية واحدة ونحن لسنا إيطاليون!

لطالما استفزتني سابقاً الأسماء على هذه الشاكلة .. العديد من زملائي في العمل لديهم في المنزل إما إله إغريقي أو نهر من أنهار الإنكا أو شجرة من أشجار الأمازون على شكل ولد أو بنت يندهون لهم يومياً بأسمائهم بكل فخر واعتزاز .. تخيلوا أن ذلك الرجل الذي يأكل الفول كإفطار نهار الجمعة ويُطرب لأغاني صباح فخري هو أب لأوديسا، وتلك السمراء التب لا تفتأ عن الاعتزاز بكل العادات والتقاليد التي تحيط بحفلات الأعراس لدينا من ” صبحية” إلى “المقدم والمأخر” قد أسمت ابنتها التي أتتها بعمر متقدم بأودين ! كلاهما لا يعرفان شيئاً عن الأساطير الإغريقية أو بحر الشمال المتجمد ولا يعنيهما ذلك بالطبع، إلا أنها قد رآ مرة على ” الفيس بوك” هذه الأسماء ووجدا معانيها جميلة حقاً لذلك قررا أن يصبحا عصريين كما الموضة الرائجة!
عند هذا الحد في النقاش خرجت كل عقدي الدفينة ومخاوفي النفسية من أن أصبح “أبو مورانا” وقلت الجملة التي ستحدد مصير طفلتي إلى الأبد: علي الطلاق ما بتسميا إلا عيوش !!

لقد حسبوا أنّي مجرد حجارة صغيرة تتقاذفها الأنهار ..لكنّي صخرة .. صخرة!

هديل خلّوف

24-10- 2019

19
أكتوبر
19

“لا تعيّب بتلتقي” ..!


منذ وصولي إلى ألمانيا وأنا أحاول أن أتعايش مع قصص الحساسية التي يعاني منها الأشخاص هنا من مواد غذائية مختلفة، فهذا عنده عدم تحمل للاكتوز، فيتجنب منتجات الحليب والألبان .. وتلك لا تستطيع تقبل “الغلوتين” فتتجنب منتجات القمح ! والقائمة تطول فعلاً وتزداد غرابة لدرجة أنّي قابلت فتاة لا تستطيع أكل الفاكهة الإستوائية تحديداً وأخرى ربما تموت (على كلامها) إن تناولت حبة توت! طبعاً لا ننسى الحساسية للفول السوداني والبقوليات “الفوال” وهذا مهدد للحياة حتماً وغيره وغيراته .. اعتدنا أنا وسامح أن نسأل دوماً قبل عزيمة أحدهم : ما هي الأشياء التي لا تستطيع تناولها؟! في أحسن الأحوال يتضح أن الشخص نباتي ويتحسس نفسياً من منتجات اللحوم .. وهذا لا بأس به بالطبع وأستطيع فهمه بشكل ما، أنا التي قضت طفولتها تشمئز من اللحوم ولا تستطيع تناولها أو حتى شم رائحتها !
لكن .. لم أكن أبداً لأستطيع ابتلاع قصة الغلوتين والأشياء الأخرى التي لايوجد من ورائها تهديد فعلي للحياة .. كنت أعتبره مجرد “بتك” (وهذه الكلمة لن يهمها سوى أهل حلب) فأنا نشأت في مجتمع لا يعرف معنى “غلوتين” أصلاً ولا يتداول هذه الكلمة من الأساس .. وعندما يعاني أحدهم من وجع في أسفل بطنه يكتفي من حوله بهز رأسهم والقول ” مممم .. معك قولون عصبي” .. وعندما يتقيأ أو يصاب بالإسهال يقولون : ” مممم .. آخد برد هالمسكين” أو في أسوأ الأحوال : تؤ تؤ تؤ تسمم ! ” .. لذلك اعذروني عندما كنت أعتبر ذلك “بتكاً” ..إذ كنت أؤمن إيماناً قاطعاً- عدا قصة الفوال- بأن الإنسان يستطيع أكل الأخضر واليابس دونما حرج!
كان ذلك إلى قبل ثلاثة شهور ..(وهنا تبدأ قصتي الحزينة) .. منذ ثلاثة شهور أصبت فجأة بحالة غريبة لا تصيبني عادةً.. حالة متدرجة   من ألم المعدة الغريب الذي يشتد ويشتد ليصبح لا يطاق ولا يهدأ ولايحتمل ثم يبدأ بعد ساعات التقيؤ المستمر الذي يزيد الألم سوءاً  وشدة ! في البدء حسبت الأمر لا يتعدى قصة البرد المعتادة وخصوصاً أنّي استيقظت في اليوم التالي لا أعاني من أية أعراض ولكأن اليوم السابق نسياً منسياً ! لكن بعد أسبوع تكرر الأمر بشكل سيء لدرجة أنّي أُسعفت للمشفى .. الألم غير طبيعي ولا يطاق والتقيؤ مستمر دونما فائدة مع شعور عام بالاشمئزاز وعدم الراحة .. في المشفى قاموا بفحص سريع لم ينتج عن شيء واكتفوا بإعطائي دواءاً مسكناً ! تكرر الأمر مرة ثالثة ورابعة على فترات متقاربة وهنا كان الوقت قد حان لاستشارة طبيبة الأسرة لأن الأمر قد أصبح مزعجاً حقاً ويشكل كابوساً بالنسبة لي .. بعد عدة فحوصات متأنية وتحاليل دم خرجت الطبيبة بنتيجة  أن ما أعانيه قطعاً ليس التهاب وقطعاً ليس تسمم و .. لا تعرف ماالسبب ! سألتني عن قائمة الطعام التي تناولتها في تلك الأيام تحديداً ولم نخرج بشيء مشترك  إلا أنّي ذكرت لها أنّي قد تناولت العسل على الإفطار في تلك الأيام (تذكرت ذلك لأني في المرات الأربعة كان عندي شعور اشمئزاز من العسل !) ، ابتسمت الطبيبة وقتها وقالت لي أنه لا توجد حالات حساسية للعسل حتماً ولم تعاين في حياتها هكذا أمر !
أنا لا أحب العسل عادةً ولكني أتناوله في فترات متقطعة جداً على سبيل التغيير .. وبالطبع قبل تلك المشكلة لم يكن يسبب لي أي ضرر .. منذ يومين فعلت شيئاً على سبيل التجربة العلمية .. لقد جلبت قطرميز العسل من المطبخ وأزحت الغطاء بكل شجاعة وتناولت نصف ملعقة صغيرة ! بعد أربع ساعات بدأت أوجاع المعدة الغريبة نفسها يتبعها القيء المستمر والاشمئزاز والشعور بأني على حافة الموت .. في هذا اليوم كان هناك معاناة إضافية وهي لوم سامح لي على هذه الفعلة الشنيعة .. كيف أتجرأ وأفعل ذلك !!

 لا أعرف التفسير العلمي لهذه الحالة، لكن قد صرت للأسف من هؤلاء الأشخاص الذين يتحذلقون ويقولون لمضيفيهم قبل الزيارة أنهم لا يأكلون العسل .. من الأشخاص الذين يقرأون المكونات الغذائية لكل منتج ويولون أدنى انتباه لكل عنصر .. لقد أصبحت ما كنت أسخر منه وأخشاه !
وكما يقول المثل الشعبي : لا تعيب بتلتقي .. ولو كتك شيخ تقي !

23
جوان
19

درج كهربائي ..


يومٌ طويل قد كان، خرجنا فيه صباحاً للتسوق ما بين سوق المدينة المحلي ومركز التسوق الكبير “دوسلدورف أركادين” .. المركز كبير حقاً ويحتوي على عدة طوابق كما كل أماكن التبضع في المدن الكبيرة هاهنا ..في كل زاوية يوجد مركز تسوق ما مليء بالمحلات التجارية وعلى المرء أن يبقى مطلعاً على كل العروض والماركات..عليه أنه يصبح “مستهلكاً” جداً !
في زحمة الألوان والجنسيات، كانت واقفة على قمة الدرج الكهربائي .. طولها لا يتجاوز نصف طولي وأصابعها الصغيرة تلوح لأحد ما في الأسفل البعيد لكي يلحق بها .. لم أهتم حقاً ما كان الأمر .. كانت ترتدي فستاناً طفولياً طوله يتجاوز الركبة بقليل وتحته بنطالاً من القطن .. وعلى رأسها يرقد حجاب قطني ذو قطعتين تحاول قطعته الأولى التشبث جيداً بجبينها محاولة جاهدة ألا تنزلق فتغطي عينيها.. أمّا القطعة الثانية فكانت تغطي الكتفين! كانت تضحك بجذل ! لها أجمل وجه طفولي رأيته منذ زمن بعيد .. وعيناها! عيناها الضاحكتان التفتتا إلي تدعوني لمشاركتها الضحك والتندر ضمنياً على هؤلاء في الأسفل .. هؤلاء الذين لا يريدون صعود الدرج الكهربائي !
أمور كثيرة احتشدت في رأسي معاً في تلك اللحظة الخاطفة من الزمن .. هذه الطفلة الرائعة تذهب إلى المدرسة ( أو إلى الروضة لا أعرف) بفستان يصل للركبة مع بنطال قطني .. هذه الفتاة الجذلة لا تستطيع عمل جدائل صباحاً مع ربطة شعر جديدة تريها لأصدقائها في المدرسة .. الطفلة الضاحكة تلك ستكبر يوماً هنا في ألمانيا ويكبر اختلافها معها ومشاكلها وأفكارها وهمومها .. لكن هل ستكبر ضحكتها يا ترى ؟ أشك كثيراً في هذا بل وأخشى الجواب .. يا إلهي إني أخشى أن ألقي نظرة على الدرج الكهربائي وما يحمله هذا الدرج !
الطفلة تضحك في وجهي، ثم تمر تلك اللحظة الخاطفة بما تحمله .. تلك العيون تشيح نظرها عني لتبحث عن وجه آخر ليتواطئ معها في الضحك .. وأنا أمشي متجهمة ومدركة لحقيقة مروعة قد حدثت الآن : لم أستطع الابتسام في وجه طفلة !

هديل خلّوف

٢٢ حزيران ٢٠١٩

10
سبتمبر
18

قصتي #1 ـ الخروج من حلب


ملاحظة: احتراماً للخصوصية، سأقوم بوضع أسماء مستعارة لبعض الأشخاص.

في حزيران سنة 2016 كان الوضع كالآتي : الدنيا حرب ومدينتي حلب مقسومة إلى نصفين، شرقية وغربية .. كل قسم فيها يتعرض إلى الموت على أيدي مسؤوليه ( وإن اختلفت الطريقة والشدة) .. كنت أنا مخطوبة لا أزال (فعلياً) ومتزوجة على الأوراق الرسمية .. وكان خطيبي في ألمانيا ينتظرني وكذلك موعدي في السفارة في اسطنبول، اسطنبول التي لا سبيل إلي في الوصول إليها بشكل نظامي بعد غلق الحدود رسمياً بيننا وبين تركيا في مطلع العام الحالي.

في حزيران ذاك كنت لا أزال أعمل كمحاضرة في كلية الهندسة التقنية، أداوم كل صباح بجد واجتهاد وأنا لا أدري ما أفعل سوى ذلك، موعد السفارة أتى وأنا لم آتي .. أتنفس الموت والهم كل يوم.
قررنا عندها القرار الصعب،لن أستطيع دخول تركيا والحصول على موعد آخر في السفارة إلا بالطريقة غير الشرعية ! أي باقتحام الحدود “عنوة” ! وكون هذا الفعل ليس “سَلَطة”، أي أنّه لا ينجح عادة إلا بصعوبة وندرة وعلى جثة المرء أحياناً، فقد كان ضمان وظيفتي شيء أساسي لحفظ خط الرجعة وماء الوجه، وهذا ما أدى لوقوفي ذلك الصباح في مكتب العميد، لأتقدم بطلب إجازة قصيرة من العمل .
ـ”يعني بنتي اصدقيني القول .. رح ترجعي ولا لأ ؟”
ـ “بصراحة ما بعرف ! مشان هيك بدي إجازة!”
ـ”بس إنتي طلعانة نتتجوزي شلون ما بتعرفي !”
ـ “….”
ـ”إجازات مافي عنا ! .. بتغيبي 5ا يوم متواصل بتتطلعي بحكم المستقيل”
ـ “!”
ولأنّي كموظفة حكومية لا يجدر بي الإفصاح عن طريقتي المزعمة بالسفر (لأسباب سياسية، وبالتالي حياتية) وحفظاً على حياتي وحريتي، اضطررت آسفةً للكذب بأن موعد سفارتي في لبنان وليس في تركيا.. وعلى ذلك لم يرضَ عميد كليتنا أن يعطيني إذن السماح بالسفر أو إجازة قصيرة، خرجت من مكتبه حانقة وأنا متأكدة في سري أنه سيقوم بالتوقيع على نفس الطلب الذي ستقدمه زميلتي الحزبية والتي تشابه ظروفها ظروفي ! أشعر بالحنق مجدداً الآن فقد صدقت ظنوني فعلاً بعدها، وبالكتابة عنه فإني أنتقم منه إلى الأبد!

في ذلك الوقت، لم يكن الخروج من حلب بالشيء السهل .. فحلب محاصرة من قبل عدة ميليشيات وجيوش تابعة لكل من يمكنكم تخيله! لذلك كان لزاماً أن يخرج المرء مع قافلة موثوقة ليصل إلى الحدود .. تم تدبير تلك القافلة بسرعة من المعارف ومعارف المعارف لتكون متكونة من ناس تشابه ظروفها ظروفي .. وتم تحديد موعد الانطلاق بسرعة أكبر ! .. لم أعرف من سيسافر معي إلى تلك البلدة الحدودية (التي لن أذكر اسمها) .. كل ما عرفته وقتها أنّي ـ السبت القادم ـ مسافرة .. مسافرة إلى المجهول !

في الأسبوع الأخير لي من الدوام، لم أستطع تعريف مشاعري بدقة.. هل سأعود يا ترى؟ هل سأرى كل تلك الوجوه مجدداً ؟ لذا عملت واجباتي الوظيفية اليومية دون أن أنبس بحرف .. دون أن أودع أحداً أو أقول لأحد عما أنوي فعله، فالدنيا ليست آمنة .. وسفر من هم بمركزي في تلك الفترة محفوف بالأخطار والمكائد وربما “التقارير” ذات الخط الجميل ! .. لم أقل حرفاً.. وخرجت لآخر مرة من باب الكلية، أنا الرومانسية التي تحب عيش المواقف بكل ما تتطلبه من تفاصيل، دونما وداع أو حتى نظرة أخيرة .. لم أقل حرفاً لزميلاتي .. وهذا ما يثير في قلبي ـ إلى الآن ـ الكثير من الشجن !

استيقظنا في الرابعة صباحاً من صباح السبت، كنت قد حزمت حقيبة واحدة كبيرة تحوي “جهاز العروس ” .. ودعت أخوتي في صمت وظلام (إذ لم يكن هناك كهرباء في مدينتي في تلك الساعة من الليل).. وعبر نافذة السيارة ودعت المدينة والشوارع في ضوء النهار الوليد .. كنت أود لو أن راديو السيارة قد بث أغاني أكثر ملائمةً للموقف.. كانت أغنية ماجدة ” كلمات” هي ما رافق آخر مشاهد من المدينة لدي .. هل هناك أكثر من ذلك لا موائمة ؟! هززت رأسي بأسف وعلمت أن الكون لا يجاريني وقتها، وبأني لا أعيش فيلمي الخاص بعد.

أما عن القافلة ورفقاء السفر والطريق، فهاذا سيكون موضوع التدوينة القادمة ..

 

 

 

03
سبتمبر
18

لقد فعلتها ..!


لا أعرف لمَ أفكر في “مغامرة العمر الرابحة” كثيراً في هذه الأيام ، ربما لأنّي قد تخلصت جزئياً من الكد اليومي الذي كان متمثلاً في التحضير لرسالة الماستر .. أو ربما ـ بكل بساطة ـ لأن سنتان بالتمام والكمال قد مرتا على ذلك .. أكتب هذا ، لأن في ليلة هذا اليوم بالتحديد قد وطأت قدماي أرض تركيا المتربة ، بطريقة غير شرعية خارجة عن القانون وعلى نمط أفلام الأكشن تماماً.

في فترةٍ ما من سنواتي البائدة ، وعلاوةً عن طريقة مغادرتي لموطني التي لم تكن لتزرني في أكثر أحلامي جموحاً ، في فترةٍ ما من سنوات التفكير الرومانسي الحالم؛ كنت تواقةً بشدة إلى الاغتراب كفكرة.. وكحلم بعيد المنال .. لذيذ.. أتعذب فيها وأنا خارج الوطن أستمع إلى أغاني فيروز وهي تصف ذلك “الجبل البعيد” طالبةً أن “ردني إلى بلادي” وما إلى هنالك , ذلك العذاب الحلو الذي يضرم في القلب آلاف الأشواق , جاعلاً الورق الأبيض ( أو شاشة الحاسوب) ينتشي امتلاءً بآلاف الأسطر المبدعة خلّاقة الأفكار!

أمّا والآن، ها أنا ذي أعيش خارج بلادي حرفياً، تنبت في القلب رعدة باردة كلما طرحت أمامي فكرة العودة ! أسترجع حياتي الماضية قبل تلك السنتين ككابوس مريع ينتمي إلى حياة فتاة أخرى كانت هناك !
ورغبةً منّي في التفكير التحليلي “المجرد” لأعرف الأسباب تماماً، فإني قد قررت هذه الليلة بالذات أن أكتب عما كل ما سبق ، ربما لأعرف السبب تماماً .. هل هي الحرب ؟ هل هي طريقة خروجي هاربة متسللة على الحدود في منتصف الليل والرصاص يدوي خلفي ؟ لقد قررت أن أكتب عن كل هذا في مقالات مختلفة.. ربما رغبةً منّي أيضاً أن أشارك هذا الفضاء الإلكتروني قصة حقيقية حدثت معي، دون أيّة بهارات إضافية .. فقط فيضٌ من المشاعر ..
أما حياة ما يسبق هذه السنتين, فلا أتذكر منها سوى ومضات تملأني بالأسى .. تملأني بالغضب والحقد الدفين !.. أتذكر فقط طفولتي المعقدة الملأى بالوساوس التي جعلتني لا أستطيع بلع الطعام جيداً ككل الأطفال الآخرين , ولا ألوم والديّ البائسين في هذا , لا ألوم سوى نفسيتي الحساسة جداً وقتها وثقافة المجتمع الخاطئة .. أتذكر فقط يومي الأول في السنة الإعدادية عندما أرغمت على ألّا أخرج من المنزل إلا وتلك القماشة ذات اللون العسكري الداكن تغطي رأسي ! كم من المهانة شعرت وقتها! مهانةً جعلتني أمشي مطأطأة الرأس وأتعثر بالرصيف لأقع مكفوئة على وجهي وأنا أبكي ! .. أتذكر المراهقة المكبوتة الملأى بـ لا تكلمي فلان أو لا تلقي السلام على علتان .. لا تنظري في وجه ابن الجيران (صديق الطفولة وألعاب الحي) وأشيحي بوجهك عندما تلتقيان صدفة على الدرج ! .. أتذكر محاولة الأقرباء وأصدقاء العائلة والله عن ثنيي عن رسم الشخوصات الإنسانية لئلا أحشر يوم القيامة مع المتكبرين المتغطرسين وأتلوى في الجحيم ألف سنة! .. أتذكر محاولاتي الدائمة لأن أنتمي، هكذا وبلا تعقيدات أو أسئلة كثيرة، إلى كل ذلك .. أن ينشرح صدري وأنا أجبر نفسي على قراءة القرآن وحضور مجالس الدين .. محاولاتي الدائمة لأن أستطيع الأكل بطبيعية .. فلا أستطيع ! وبالطبع، الكثير والكثير من ليالي النوم في ممر المنزل أو الحمام هروباً من القذائف والصواريخ والرصاص ! هذا ما أتذكره من “الوطن” ! عن جد !!

يطالعني الآن منشور على الفيس بوك كنت قد كتبته في أول لحظة أدخل فيها تركيا وألتجئ إلى بيت أحد المعارف، كنت قد خصصته لنفسي فقط .. كانت لحظة انتصار عن كل حياتي الماضية، ولحظة انتصار على نفسي .. نفسي الضعيفة السلبية التي كانت تحاول التلائم مع كل ما مضى ..
لقد فعلتها ! فعلتها حقاً ! .. أما كيف، فهذا ما أريد أن أكتب عنه الكثير .. الكثير جداً .. فيما بعد ..

 

Capture

01
جانفي
18

رجلٌ من مدينتنا.. اعتراف.. 


لا أعرف كم تبقى من الوقت بعد.. لكني أعتقد أن ما تبقى كافٍ جداً لأقول ما أريد قوله.. كل السنين الماضية لم تكن مجدية لذلك.. لكن الدقائق القادمة هي الزبدة.. أعرف هذا وأحسه..

أتأمل أظافري المحيطة بالكأس، ربّاه إنّي أمتلك أيدي منحوتة! لقد أحسنت صنعاً حقاً.. أريد الآن أن ألثمها.. أن ألتهم رؤوس أصابعي التهاماً.. أن أمارس الحب مع نفسي!

لا بد وأنكم تعتقدون بأن الخمرة قد بدأت تسري في كياني وتلعب في رأسي.. آه رأسي ذاك المثقل بكل اللوم الملتهم للذات، بعقد الطفولة الأولى، بجملٍ تبدأ ب”ماذا لو” أبدية.. وبها وبي في مكان ما وزمان ما مضى.. في الزمكان الخاص بي تماماً.. لي أنا وحدي..

البارحة اصطدمت بفتاة في محطة القطار، لم أعتذر لها.. نظرت إلي بأسف.. نظرة خاطفة سريعة استطعت فيها قراءة وجهي المتشرد على ملامحها.. وجهي الذي يعاني من اكتئاب مزمن.

لا أعرف متى بدأ هذا التصدع المريع في نافذة روحي، إنه شيء لا تستطيع تحديده بدقة.. كل ما أعرفه أن أصواتاً ناقدة باستمرار تصيح في داخلي.. وأنّي أجدني مؤذٍ لجميع البشر.. لقد آذيت والدي باختلافي، وآذيتها بجنوني.. لقد آذيت كل أولئك الأحبة الذين لم أستطع مصادقتهم.. لقد آذيت فتاة القطار..

لقد قمت بحلاقة ذقني منذ قليل، وضعت أيضاً كريم ما بعد الحلاقة ذو الرائحة التي تمتلكها كل كريمات ما بعد الحلاقة.. والرائحة لا تزال تزكم أنفي، وهذا يذكرني بموضوع فلسفي عميق أريد طرحه وبشدة وأريد من الكل أن يفهمه.. هذا العالم الذي نعرفه عن طريق حواسنا؛ ما هو فعلاً؟ لنفترض لنفترض أني قد ولدت بلا حواس.. أصماً ملتهب الأعصاب لا يرى.. كيف ستكون شخوصي الداخلية؟ وهل ذاك الشرير اللوام سيبقى هناك؟ هل سأكون غير مؤذٍ؟

آخ.. الرؤية باتت مشوشة قليلة الآن.. أعتقد أن مفهوم البشرية للأشياء مقلوب بعض الشيء.. وأنا بصدد إثبات ذلك.. إثبات أني أستطيع التحرر من حواسي للأبد.. أنّي بإمكاني أن أصبح كائناً شفافاً غير مؤذ على الإطلاق.. أنّي أستطيع إسكات اللائم الشرير الذي يذكرني بهفواتي وأخطائي وفشلي.. أستطيع إثبات أنّي  أستطيع الاختيار وإنهاء شيء فُرض علي فرضاً.. أي ظلم أكبر من خلقك في مكان وزمان وبعد لم تختره أصلاً؟

أيها الأوغاد، سأرفع إصبعي الوسطى في وجوهكم جميعاً بينما أغادركم وستبقى ثابتة كمنحوتة.. لا تحزنوا أو تأسفوا لما فعلت، فمفاهيمكم عن الحياة والموت مختلطة ممروضة.. أنا سأحيا وأنتم أموات متشابهين لدرجة تثير الغثيان..!

هاقد بقيت الرشفة الأخيرة من الكأس.. أعتقد أن السم قد بدأ مفعوله وأن أمامي دقائق معدودة.. معدودة جداً..

01.01.2018

هديل خلوف

21
أكتوبر
17

تعدد الزوجات والحمق الذي يحيط به! 


في أحد غروبات الفيس هناك تلك الفقرة التي يبعث فيها من يشاء قصة حياته للأدمن ليقوم بنشرها تحت رقم.. الجميل في هذه القصص أنها كلها صادقة وواقعية وحدثت لأشخاص حقيقيين يعيشون فيما بيننا.

في إحدى تلك القصص تروي إحداهن قصة زواجها السعيد الذي دام لتسعة سنوات قبل أن تكتشف أن زوجها قد تزوج بأخرى دون علمها! وهنا بدأ العذاب.. فهي قد نفرت منهه واعتبرت القصة خيانة لها وصار هناك، كما لابد أن نتوقع شرخ كبير في توازنها النفسي.. بالطبع طلبت الطلاق لكن -زوجا توسل أن تبقى معللاً أنه يحبها.. وقلبها الشرشوح أخبرها أنها في داخلها تحبه لازالت! لكن.. بنفس الوقت من غير الممكن أن تتقبل أن تشاركها أُخرى فيه!

هذه دوامة نفسية حقيقية.. أرى مجرماً حقيقياً وحيداً فيها وهو الزوج.. الذي وبأنانية كاملة ترك 3 أطفال معلقين بين زوجة مكلومة تشعر بالخداع والخيانة وبين أم لا ترضى أن تخرب توازن حياتهم بتركها لأبيهم!

القصة ليست غريبة وتحدث في عشرات – إن لم يكن المئات- في البيوت السورية.

ما استفزني هو التعليقات الناصحة الكثيرة بأن تصبر وتتحمل.. لا لا بل هذه الجملة بالذات : الزلمة ما عمل لا عيب ولا حرام.. هاد شرع الله!

لا.. لا يمكن أن يكون هذا شرع الله يا حمقى.. شرع الله أو الطبيعة الكونية تكون متوائمة مع الفطرة الإنسانية العامة.. فلينظر كل رجل في نفسه، أيرضى أن يشاركه المرأة التي يحب رجلاً آخر؟ الجواب هو ذاته في جوف كل امرأة.. في الحقيقة لا يرضى أي إنسان “سوي” أن يكون هناك شريك جنسي آخر لشريكه في نفس الوقت.

ماذا عن تعدد الزوجات إذن؟

الحالة الوحيدة التي أفهم فيها هذه الظاهرة وأتقبلها هي عند موافقة الزوجة الأولى على أن يكون لزوجها شريكة أخرى.. وعند معرفة هذه الشريكة بموافقة الزوجة.. الاثنتنان راضيتنان بهذا؟ حسنٌ إذاً..هناك الكثير من الاستثناءات النفسية.. ما دخلنا..!

بينما في الزواج بأخرى دون معرفة الزوجة الأولى وموافقتها قبل ذلك.. فالرجل ببساطة خاااائن ويستحق الرجم يا أصحاب شرع الله! (أنا ضد الرجم.. لكني أتكلم بمفهومكم)
عندما تعي المرأة ذلك.. والأهم عندما تتوقف عن أن تكون عدوة لبنات جنسها.. عندها فقط ستتوقف هذه القصص المحزنة والظلم. وإن حدث لها مثل هذا، فسوف تمتلك القوة الكافية لتترك هذا الزوج ليكون لها الحق هي الأخرى بأن تمون مع شخص آخر يقدرها بالقدر الكافي.

وبالنسبة للرجال صاحبي العبارة الممجوجة والأسطوانة المشروخة ليبرروا هذا الأمر بحجة أن عدد النساء دائماً أكبر من عدد الرجال فأقول: في الصين اليوم يفوق عدد الرجال النساء بمراحل.. ما رأيكم بأن يتنزل ملاك من السماء ليحلل تعدد الأزواج حلاً للمشكلة؟ ما رأيكم.. هه؟ 

هديل خلّوف
21-10-2017

24
أوت
17

كي لا أنسى .. فرح..


وصل في الثامنة والنصف ليراها جالسة خارجا .. صامتة متحفزة كالقطة التي بجانبها .. أدار المفتاح وفتح الباب لتندفع إلى الداخل هي والقطة .. اعتلت الكرسي “عربشة” وألقت بثقل الحقيبة الصفراء الصغيرة على الطاولة أمامها ثم فردت ألوانها وبدأت بالرسم .. 
قرر أن طاولته اليوم بحاجة إلى التنظيف ، نقل ما عليها إلى الكرسي بجانبه .. وبدأ برش سائل التنظيف ومسحها بقماش قطني .. 
تنبهت الصغيرة واهتزت خصلات شعرها المربوطتين كأذني قطة وهرعت لتمسك سائل التنظيف بصعوبة وبدأت برشه على الكراسي الجلدية المغبرة .
“فتاة جيدة فرح ” قالها بمرح وتابع التنظيف ..
عند الانتهاء أعادا الأغراض سوية إلى المكتب .. لفت نظرها مثقاب الورق وقضت الوقت جذلة وهي تثقب الأوراق هنا وهناك مشكلة فوضى طفولية محببة .
ركضت القطة خارجا فتبعتها فرح وأعادتها .. ” تحبين القطط فرح ؟ ” .. بعد برهة صمت حدجته فيها بعينيها الزيتونيتين الواسعتين .. احتضنت القطة بيدها الوحيدة وقالت بصوت خافت متردد ” بحبن .. بحبن كتير ”
انتبه إلى أنها المرة الأولى التي يسمع فيها صوتها !

اعتاد الموظف الحكومي أبو عبدو أن تكون فرح ذات الأعوام الأربعة ضيفة شبه يومية في مكتب المديرية .. عند تلك الطاولة التي بقرب النافذة كانت تخلق عالمها وتلونه بل وتعيش فيه .. لم يكن في عالمها هذا قنابل وقذائف تقطع الأيدي وتخرب البيوت .. وكانت علاوة على هذا لها غرفتها وطاولتها ككيان مستقل .. ألم تصبح هذه المديرية بيت أبويها مذ اندلعت الحرب ؟ ألم يصبح اسمها “ابنة المقيم” ؟
هاقد انتهى الدوام .. بدأ الموظفون بالترتيب للخروج من مكاتبهم .. انتبهت فرح وخرجت من عالمها ورتبت أغراضها في حقيبتها الصفراء بصمت أبدي .. جرجرتها وراءها بيدها الوحيدة تتبعها قطتها .. أراد أبو عبدو أن يهرع إلى أبيها ليبشره بأن ابنته قد عادت إلى الكلام وأخيرا .. ثم انتبه أنها لاتزال تملك يدا وحيدة .. أقفل مكتبه وانصرف ..

هديل خلوف
23-08-2015

11026107_896260633754424_2920220930980148841_o

28
جويلية
17

يوم =)


لم يكن ذلك اليوم مميزاً بشكل خاص , فالشمس لن تتحول إلى اللون الأزرق وطائر السنونو سيظل يحلق ويصدر تلك الأصوات المؤلمة .. لا لم يكن يوماً معلّماً على الروزنامة بدائرة حمراء أو إشارة x صغيرة ..
كان يوماً من أيام آذار , ذلك الشهر المزاجي جداً ..
ارتدت لميا ما ترتديه عادةً ومارست طقوسها نفسها قبل أن تخرج من المنزل , الطرقات المملة هي نفسها وسوف ترى الأشخاص إياهم ممن تراهم كل يوم .. أحياناً ترواد نفسها أمنية أن ترى مخلوقاً عجيباً قادماً من الفضاء الخارجي ( على ألّا يكون لونه أخضر أرجوكم ! ) , كيف تصبح محظوظة مثل أولئك الذين تعج بهم الكتب التي تتحدث عن اليوفو والمركبات الطائرة ؟ .. أوووف .. فتحت مظلتها وتابعت السير ..
لم لا تطير كسنبل ؟ أو تتحول مظلتها إلى قبعة الإخفاء ؟ أو .. أو تنقلب بفعل الهواء الشديد مثلاً فتضحك هي ومن رآها من المارة ؟ سيكون هذا مسلياً للحظة على الأقل .. تخيلت ألا يكون معها مظلة أبداً ويشتد المطر ويشتد فتهرع لتقف تحت أحد المباني , وهناك من الزاوية يخرج شاب يرتدي معطفاً أنيقاً يمشي مسرعاً مطرقاً كالمحققين , ثم .. ثم يراها واقفة مبتلة مرتجفة وحيدة كقطة فيمد لها يده بالمظلة وتبدأ أجمل قصة حب في تاريخ البشرية ! .. واو .. ” ولكن .. لنفكر بعدل .. هذه بداية مبتذلة جداً التهمتها آلاف الروايات والمسلسلات .. لا أريد أن ألتقي بفارس أحلامي على هذه الطريقة القديمة .. مظلتي عودي إلي أرجوكِ ! ” .. اشتد الهواء واشتد المطر , وبدأت المظلة فعلاً ترواغ بين أيدي صديقتنا ! وهنا خطرت لها فكرة !
“ماذا لو تركت المقود لمظلتي ؟ سوف تلعب محل الذراع التي تقود تلقائياً إلى الأحرف في جلسات تحضير الأرواح .. سوف أقوم بتحضير طريقي اليوم ! ”
تطير المظلة إلى اليمين فتستدير لميا إلى اليمين وتتابع المشي , وهكذا صار تمشي ومظلتها تسبقها .. وهي تمسك بكلتا قبضيتها عليها لئلا تفلت ..
خمدت الريح وتوقف المطر تدريجياً , اضطرت لميا آسفة على إغلاق المظلة ورذاذ المطر الربيعي قد بات يضرب وجهها الآن .. وقفت في تقاطع طرق , إلى جانب بحيرة صغيرة كونها المطر .. احتارت ماذا تفعل .. لم تقدها المظلة إلى “أرض العجائب ” أو حتى إلى مدرستها على الأقل ! لقد انتهت اللعبة وعليها أن تعود الآن إلى طريقها القديم ..
تأخرت لميا ربع ساعة عن الصف , لأول مرة في حياتها تتأخر عن دروسها ولدهشتها الشديدة كم وجدت لذة في ذلك !
منذ ذلك اليوم , قررت لميا أن تجرب أشياء جديدة .. طرقاً جديدة .. مشاعراً جديدة .. ألعاباً جديدة .. اكتشفت أن الحياة في حد ذاتها تحوي ألف قصة مغامرات وألف رواية .. لا تحتاج إلى رؤية كائن فضائي أو أن تطير بمظلتها لتصبح سعيدة .. عليها أن تكسر عاداتها فقط ..

هديل خلّوف

26.07.2014

18157029_1325988134115003_5041472568287028010_n

11
أفريل
17

يوميات الشمال – أزهار الكرز التي تخفي الكثير.. 


اكتشفت مؤخراً، وبعد ما يزيد عن العشرين ربيعاً، أنّي لم أرَ الطبيعة بطقوسها الاحتفالية الحقيقية من قبل! أنا التي كانت تجن احتفالاً عند رؤيتها لفراشة صفراء تكاد أن تصفع وجهها في طريقها للعمل ترى عيناها اليوم انفجاراً طبيعياً ربيعاً بكل ما أوتي الربيع من خصب وحياة! أعشاب متسلقة في كل مكان.. ورود أعرفها ولا أعرفها تصبّح علي.. وأزيز نحل وزقزقة عصافير و”نطوطة” سنجاب ما هنا وهناك.. والأخضر والأخضر في كل مكان.. وروائح الفانيليا والغاردينيا والتوليب.. كل تلك أشياء لا يحتملها حس اصطياد الجمال الذي لدي.. يا إلهي.. لا ينقصني سوى غيمة لأعيش عليها وسط هذا كله! .. يا إلهي.. مدني بآلاف ببطاقات الذاكرة مديدة الجيغاغات! 

ثم كانت أشجار الكرز.. أشجار الساكورا التي ظننت أنّي لن أراها بهذه الكثرة إلا في الجزر اليابانية.. تظلل بتلاتها طريقي وتناديني باستمرار لألتقط لها الصور..

 صباحاً وعند عودتي مساءً أراها.. هناك بين أشجار الكرز تدفع عربتها أمامها تمشي على مهل.. تنتبه دوماً لحضوري وتسارع بابتسامة لتقول لي ” هالو” ثم تعاود الالتفات لصغيرها وتكمل حديثها اللانهائي معه.. أفكر دوماً.. هل يمكن للحياة أن تكون أجمل من هذا؟ تنزهات لانهائية من غير ملل أو كلل وأحاديث طفولية بين بتلات الكرز! 

البارحة خطر لي أن أنظر إلى العربة متمعنة، كي يتسنى إلي أن أختبر لغتي الوليدة.. فأقول لها طفلك جميل أو ما شابه.. أن أفتح حديثاً بالألمانية يعني.. عل وعسى تنحل عقدة من لساني.. اقتربت من السيدة ذات العربة وبتلات الكرز تتطاير في الهواء فيحمل نسيمها رائحة عطرية خفيفة وتعلق البتلات في شعري فأصبح كإحدى الشخصيات الكرتونية.. اقتربت فبادرتني كعادتها بابتسامة مع هالو.. رمقت الطفل الراقد.. الطفل ذو البشرة البلاستيكية والعيون الزجاجية والشعر الخيطي الأصفر! 

لم أستطع أن أقول لها ” ياله من طفل جميل”..  كيف يمكن أن يطري المرء دمية؟!  كل ما استطعت فعله هو أن أسرع الخطى إلى المنزل لأستطيع استيعاب ما رأيته.. لأستطيع أن أبتلع كل دفقة الشفقة المفاجئة التي اعترتني.. كانت بتلات الكرز لاتزال تتطاير في الهواء.. وتحول المشهد لدي من حفلة ربيعية رومانسية إلى رعب قوطي هارب من أحد الأفلام اليابانية! 

07
فيفري
17

“في حارتنا “جب! 


​في حارتنا جب ..

جميع الأنظار تتجه إلى هناك .. الكبار والصغار .. أشقياء الحارة وعقلائها .. جميعهم يقف رافعو الرؤوس .. شادهو الأبصار .. في مشهد احترت هل يبدو سيريالياً أم كوميدياً بحتاً جديراً بقنواتنا التلفزيونية المحلية ..

والوحش لا يهدأ .. يرتفع إلى الأعلى فترتفع معه الرؤوس والأبصار ، ثم يترك نفسه في سقوط حر إلى غياهب الأرض فيطلق أحد الصبيان – ذاك الذي كان يضع إصبعه في منخره قبل قليل- شهقة تعبر عن مفاجئته واستمتاعه بمشاهدة كل هذا معاً ! 

وحول كل هذا بحيرة طينية كبيرة جديرة ببقعة جغرافية ما من العالم غير هنا .. من الصعب حقاً أن تتخيل يوماً أن ترى في حارتك مستنقعاً طينياً يسبح فيه مجموعة من الخنازير الوردية في جذل .. أو أو يمد بين الفينة والأخرى فرس النهر رأسه ثم يتثاءب في رضا .. هذا عداك عن التماسيح التي تجول هنا وهناك ! أو .. لا لا .. أظن أنّي قد خلطت بين ما تخيلته بينما كنت واقفة هناك وما بين ما كان يحدث حقاً .. !

والوحش يتابع عمله .. ويستكشف أكثر وأكثر في غياهب الأرض الجافة .. والصبيان الأشقياء لا يملون المشهد .. وكبارية الحارة يجلسون على كراسيهم أمام دكاكينهم الصغيرة أو “بالمعيّة” مع جيرانهم ممن يمتلكون دكاكين صغيرة .. وأنا يتسخ حذائي كل يوم بالطين !

قريباً سيحقق هذا الوحش إنجازاً أسطورياً .. سوف يزعق أن وجدتها وجدتها ! وسوف تنساب المياه المالحة في عروق الأرض (الخراطيم البلاستيكية) لتغذي المنازل المتهالكة .. مياه غنية بشوارد الكالسيوم والمغنزيوم والصوديوم بل وربما الرصاص والذهب أيضاً ! فمن يدري ؟

البعض سيشرب هذه المياه التي تحمل ألف قصة وقصة .. سيدع رفات مئات بل عشرات بل ملايين الأحياء تندمج مع أنسجته الحيّة في صمت .. والبعض سيكتفي باستخدام هذه المياه البيضاء الصلبة في تلميع الأثاث وغسل الأرضيات وفرك أصابعه بالصابون الذي أعرض عن صنع الرغوة .. وسيهرع إلى استخدام مدخراته الثمينة ليحصل على مياه مدللة مصبوبة في قناني بلاستيكية!

على أيّة حال لا يمكننا إلا بالشعور بالامتنان لهذا الوحش العزيز .. والبركة الطينية .. والحفرة السحيقة على الرصيف والتي يقبع في داخلها ألف مارد وجنيّة .. إذ أيّها السادة .. لقد أصبح في حارتنا “جبّ” ! 

هديل خلّوف
07/02/2016

23
جانفي
15

طاحونة اللون الأرجواني..


image

في طفولتي ، كان هناك ذلك المسلسل الفنزويلي المخصص لليافعين والذي كان يدعى “شلة السبعة ” .. كنت شغوفة بهذا المسلسل وأستطيع القول أني كنت أنتظره بالساعة والدقيقة .. شلة السبعة هؤلاء هم سبعة أطفال أشقياء يقطنون في ذات المبنى ويؤلفون شلة للمرح واللعب،  وكان هنالك بالطبع الشخصية الشريرة المتمثلة ب”لولا” منظفة الدرج والتي كانت تمنعهم من اللعب على درج البناية وتحيل حياتهم جحيماً ( بالطبع كنت أراها شريرة وقتها كوني كنت ألعب على درج البناية بدوري ،  لكني الآن أرى أن معها كل الحق في ذلك)  .. المهم .. كانت الشلة تتألف من أربعة صبيان وثلاث فتيات على ماأذكر .. كانوا واسعي الخيال والحيلة إذ استبدلوا مكان لعبهم على الدرج باجتماعهم في قبو المبنى – وذلك اتقاءً لشر لولا – وهناك اتضح لهم أن قبو المبنى ليس قبواً عادياً ! كان هناك صندوق ناطق وكائنات عجيبة وبعداً آخر من الحياة يقيم هناك على الجانب الآخر من الحائط .. حلقات المسلسل كانت متعة ومشبعة للخيال .. ثم جاءت تلك الحلقة التي استيقظت فيه فانيسا الرقيقة اليافعة لتجد أن جسدها قد سلك طريق البالغين !
تنزل فانيسا إلى القبو لتجتمع مع الشلة كما اعتادت أن تفعل لتكتشف هناك أن القبو قد استحال قبواً عادياً !  تستفسر من الشلة متعجبة فيتعجبون منها أكثر ويأكدون لها أن كل شيء على حاله .. هو ذا الصندوق الناطق وذاك هو الجدار السحري وكيف لا ترينها يا فانيسا؟ !
بونيتو ( أصغر أفراد الشلة وأكثرهم ذكاءً ) يشغله موضوع فانيسا فيبدأ باستنطاق الصندوق عن ذلك عندما يتركونه في القبو .. ولأن الصندوق يعلم كل شيء ، يجيب بأن فانيسا قد خطت اليوم أول خطوة في عالم البالغين وأنها لم تعد منهم ولذلك فهي لن تعود قادرة على رؤية عوالم أخرى عدا عالم الواقع !
لقد ارتدت فانيسا نظارة الواقع إذاً .. وأصبح القبو قبواً عادياً بكراكيبه التي تنتمي إلى العالم المنطقي .. لا كائنات عجائبية .. لا صندوق ناطق ..لا سحر ..
لا أعرف لم أتذكر فانيسا كثيراً في هذين اليومين!  الأمر ربما أني قد بدأت أنا الأخرى بارتداء النظارة المقيتة تلك .. تلك الجذوة التي تحملها روحي والتي تقوم بتغذية عالمي الافتراضي الخاص بي صارت أضعف وأضعف مع كل ذاك الغبار والضوضاء التي تنهال من عالم الواقع عليها.. الأمر أني قد صرت أكثر ارتباطاً بعالم الواقع يوماً عن يوم دون إرادة مني،  إن سني ومركزي الاجتماعي قد باتا يفرضان علي أشياءً وقوالباً لم أكن أتعامل معها قبلاً.. والعوالم الساحرة التي يتناولها الأدب والسينما قد باتت بعيدة جداً والتماهي معها صار ترفاً لايسمح به وقتي أو مسؤولياتي .. عالم البالغين اللعين بواقعيته وصرامة قواعده قد دخلته فانيسا عبر نضج جسدها وأنا عبر وفاة آخر شيء يربطني بالعالم الذي أوجدته لنفسي يوماً ..
لكن تعلمون ماذا؟  أنا لست فانيسا التي لا تستطيع السيطرة على نمو جسدها .. انا الآن أعرف المشكلة ولايزال بإمكاني إنقاذ ما تبقى من الجذوة .. سأحاول ما أمكن اعتزال هذا العالم الممتص للطاقة الروحية ولو كلفني ذلك أن أصبح متوحدة مع ذاتي .. سأقاوم طاحونة الخيال هذه.. وسأسترجع قبو الأشياء السحرية ذاك لأنقذ ماتبقى من اللون الوردي !
                                                        هديل خلوف
23-01-2015

23
أكتوبر
14

عن متع الحياة الصغيرة ر^^


174641_150267905029883_2310254_n[1]
أن تعيش ضمن حرب وفي أخطر مدينة في العالم لهو أمرٌ لا يشهده الكثير من الناس , أنا نفسي لم يكن يخطر لي في أكثر كوابيسي جموحاً أنّي سأكون من أولئك المنحوسين الذين سيشهدون حرباً, ومتى ؟ في أكثر المراحل شباباً وانطلاقاً !

لن أحدثكم عن حصاد الموت في مدينتي , وعن الرعب في الشوارع والأزقة .. لن أحدثكم عن انقطاعات الكهرباء وبقائنا لأسابيع دونما مياه أو خبز أحياناً .. لن أحدثكم عن فقد الأحبة المفاجئ أو سفرهم إلى خارج البلاد دونما رجعة .. سأحدثكم أيها الأصدقاء عن المتع الصغيرة التي لا تزال موجودة والتي تمد لسانها في وجه الموت والكآبة وتنعش أرواحنا ..

اليوم حضرت فعالية بسيطة في فكرتها وتنظيمها , كبيرة جداً في روحها .. يمكن تسميتها معرضاً للتصوير الضوئي .. الفكرة هي أن تتحدث الصور عن مدينة حرب , لكن ليس عن موتها وخرابها , وإنما عن الحياة اليومية فيها .. عن زوايا مبهجة وابتسامات لا تزال تعبر عن نفسها بنفس عناد الموت .. كنا سبعة من الأصدقاء في عمر الشباب وكانت القاعة تضج بالشباب أيضاً .. سيلفيات وضحك ومشاهدة لوحات والاشتراك بالمسابقة ثم الضحك مجدداً والوقوف عند كل لوحة والتأمل بتلك المشاهدات التي جمدها الزمن من مدينتنا المتعبة .. كانت هناك لوحة لرجل عجوز يضحك من كل قلبه .. لوحة لفتاتين مراهقتين تقفان في الطريق وتتناقشان وتضحكان حول أمر ما .. لوحة لشاب على دراجة هوائية تظلله طوال الطريق ورود قرمزية تتدلى من إحدى الجنائن .. كتاب مفتوح تتطاير وريقاته فوق عشب .. كانت الصور تتحدث وفي داخل القاعة كان هناك حياة .. رغم وجود عدد ممن شوهت الحرب أجسادهم إلا أن الأرواح لاتزل صافية لم تتشوه ولا أعتقد أن هكذا أرواح ستتشوه مهما فعل بها هذا الزمان اللعين .. لقد ردت لي هذه الزيارة جزءاً من نفسي كنت قد افتقدته مؤخراً ..

عدنا إلى بيوتنا بعدما مشينا في ظلمة الطرقات .. سبعة أصدقاء أصحاء في عمر الشباب يضحكون ويتقافزون على الأرصفة .. في يد كل واحد لوحة !

غداً هو يوم عطلة .. والذي بعده .. سآخذ بعد قليل حماماً ( إذ أن الماء قد زارت صنابيرنا اليوم بعد انقطاعها لأسبوع ! ) ثم سأشاهد فيلماً , ومن ثم أقرأ قليلاً في قصة الحضارة .. لأنام في وقت متأخر على أنغام أغانيي المفضلة .. ياإلهي كم أشعر بالسعادة الآن ! ^_^

* من المعرض :

4

09
أكتوبر
14

رجلُ من مدينتنا 2 – فستانك الفيروزي أحلى ..


20141002573
اليوم هو اليوم المُنتظر إيّاه .. تستيقظين صباحاً مع شعور لم يسبق لك أن اختبرته .. تبقين في السرير لبرهة , لا تريدين النهوض .. تعلمين أنّ تفقد حسابك الفيسبوكي هذا الصباح لن يكون بتلقائية الأيام الماضية .. تعبث أصابعك الباردة النحيلة بأزرار الهاتف لا لسبب معين .. أنتِ تريدين إيطال فترة ما بين الاستيقاظ والنهوض ليس إلّا ..

تتساءلين عن موديل الفستان ولونه , هل هو أبيض أم أوف وايت أم بلانسير ؟ هل ستكون الطرحة طويلة أم قصيرة ؟ مكشكشة أم منسدلة ؟ .. وبدلته السوداء الأنيقة , كيف سيبدو بها ؟ هل ستنسدل تلك الخصلة على جبينه ؟ هل سيترك شعره ثائراً أبداً كما عهدتيه أم سيصففه بعناية لم تعرفيها عنه ؟
تقررين النهوض الآن .. تتوجهين إلى المرآة وتتأملين ملامح وجهك بعناية .. تأخذين نفساً عميقاً وتحاولين الابتسام .. من بعد هذا اليوم لن تبقي كما أنتِ, مدللة وطائشة وضعيفة .. هذا اليوم هو الفيصل في حياتك .. تشعرين الآن ببرودة البلاط تلسع رجليك فتسارعين إلى السرير لتتكومي على نفسك وتلتفي بذلك الوشاح الملون الذي أهداك إياه يوماً بعد إحدى الرحلات ..
والآن ؟ تفكرين .. هل حان الوقت لدخول حسابك الفيسبوكي ؟ .. تأخذين نفساً عميقاً ..
قد بتِّ تعلمين في هذه اللحظة كيف هي تصفيفة شعره ولون ربطة عنقه .. رأيك أنّ فستانها الأبيض ليس ” على الموضة ” .. إنك تكرهينها الآن أكثر من أي يومٍ مضى !
كيف جعلت الأيام هذه اللعبة الباردة تقف بجانبه هكذا إذاً ؟ تحاولين التفكير بمنطقية في هذه المعضلة الحزينة .. أنتِ تعرفين الإجابة لكنك فقط لا تتقبلينها ..
لقد كنت تشكلين جزءاً مهماً من عالمه الخيالي المجنون , هذا العالم الذي ينتشي بأشعة القمر ويرتوي بندى الزهر .. لقد كنتِ له فينوس وكليوبترا وغانية هندية في معبدٍ أسطوري سحيق .. وكان هو معبودك الإغريقي وشاعرك العربي وأميرك الشرقي المزركش .. جنونكما كان يعني اشتعال القمر ورقص الآلهة وتفتح الأزهار على جبال الألب .. أشياءٌ من تفاهات الحياة اليومية لم تكن في عالمكما قط , لا يهم ماذا ستأكلان أو أين ستنامان ما دمتما سويةً .. لم يؤرقكما يوماً وجود تلك الصفائح الورقية نتنة الرائحة التي يسمونها مالاً أو عدم وجودها .. لقاؤكما معاً كان يعني الحب .. والمزيد من الحب .. والُسكر في الحب فقط .. ولا شيء آخر ..
ولأنه رجلٌ من مدينتا يا هالة , يبدأ في سن معينة بالعودة إلى فوضى الحياة الواقعية وتفاصيل الأشياء اليومية .. يكتشف فجأة أنّه لا يزال يملك أماً تحرص على مصالحه بجنون وأنّه لا يزال طفلاً جداً أمامها .. يكتشف أنه يريد أن يصبح أباً وأن ابنة الحاج عمر صاحب معمل الصابون قد صارت صبيّة أنيقة ,تجيد صنع المأكولات بدءاً من معكرونة الإندومي وحتى أشهى أطباق ” القبيوات ” و” الفريكة ” ! .. ينظر إليك يا هالة فلا يرى أمامه سوى فتاة خارجة من عالم الأساطير لا تطيق المطبخ ولا تطيقها أمه ! .. يحاول أن يتخيلك تبدلين حفاض طفل رضيع فلا يستطع .. يبعد الفكرة فوراً من ذهنه .. فهذا لا يليق بفتاة القصر المرمري ..
ولأنه رجلٌ من مدينتنا يا هالة .. ترينه بعين خيالك متأبطاً ذراع أمه .. يبتسم في وجه اللعبة الشقراء تلك .. يحيط إصبعها المكتنز بالخاتم الذهبي .. ويصبح رجلاً حقيقياً من رجال مدينتنا البائسة .. تلك المدينة التي تحب الغرق في فوضى الحياة اليومية والتفكير بأشياء تعدينها تافهة من قبيل الطعام والشراب .. ألم يقل غوته على أية حال أن الحب ينتهي بالعيش المشترك والغرق في تفاصيل الحياة اليومية ؟ .. تعزين نفسك بأن السبب هو هذا .. وأن حبكما لم يُكتب له أن ينتهي ..
تغلقين الحاسوب .. وتهرعين إلى الخزانة لترتدي فستانك الفيروزي .. ذلك الفستان الذي قررتي أن تبدأي حياتك الجديدة بارتدائه .. وتبتسمين.. ستودعين إلى الأبد مدينتنا ورجل مدينتنا .. !

هديل خلّوف
8-10-2014

15
سبتمبر
14

الحياة جميلة .. والفن جميل .. وخطِر !


sjff_03_img0954

 انتهيت للتو من مشاهدة الفيلم السينمائي الإيطالي la vita e bella أي ” الحياة جميلة ” .. والحق يقال أن هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها فيلماً سينمائياً يضحكني حتى تنهمر دموعي في نصفه الأول .. ويحزنني حتى تنهمر دموعي أيضاً في نصفه الأخير , حيث يندمج كل هذا في إطار فني سينمائي راقٍ لا يسعك إلا الإعجاب بأدواته .. ومالموضوع الذي يتناوله خذا الفيلم يا حزركم ؟ الهولوكوست ! .. يتحدث الفيلم عن “غويدو ” المرح الذكي ” الحربوء ” الذي يستخدم ذكاءه ومرحه للحصول على أميرته الجميلة الثرية .. ويفوز بها بعد كل تلك الكوميديا ويتزوجان ويعيشان في سبات ونبات ويخلفان صبيان وبنات .. آآ .. لا لا تنتهي القصة هنا بالطبع .. يصبح لديهم جوشوا الصبي الذي أخذ ذكاء أبيه وجمال أمه .. ينتهي الفصل الكوميدي المرح من حياة هذه العائلة وتبدأ التراجيديا مع سيطرة ألمانيا النازية على جزء كبير من أوربا في الحرب العالمية الثانية ( الفيلم يقع في تلك الفترة كما وقد خمنتم ) وتبدأ فظائع الهولوكوست , هذه الملحمة التي لم أتعاطف معها يوماً لأني أثق أنها تحتوي على الكثير من المبالغات والأكاذيب .. وبالطبع كون غويدو يهودياً وكذا جوشوا , تنضم أسرته إلى تلك الجموع البائسة المقادة نحو معسكرات الاعتقال النازية . وهنا تبدأ أجمل قصة حبكة سينمائية قد شاهدتها يوماً .. لتتركنا مع المشهد الأخير نبكي بتأثر .. ردة فعلي التلقائية .. لقد قلت أنّي لم أكن يوماً من أنصار التباكي على رماد الهولوكوست .. ليس الأمر أنّي لا أتعاطف مع اليهودي في ألمانيا النازية .. فاليهودي المدني هو إنسان مثله مثلنا .. لكني فقط أكره استغلالهم لهذه الحوادث والصراخ في كل مكان .. جميع الشعوب والأعراق والأجناس قد تعرضت في وقت ما لإبادات جماعية .. هل ترون أحدها يستغل تلك القصص لإدرار العواطف سوى الصهاينة واللوبي اليهودي ؟! .. أقول أنّي قد تأثرت بالفيلم حقيقة لدرجة البكاء .. هذا ما يفعله الفن .. إنه يغني عن ألف سلاح وألف عملية انتحارية وألف لحية .. هذا الفيلم يحتوي رسائل إنسانية صارخة لا تستطيع ألا تتعاطف معها .. وربما تبدأ جدياً في تصديق كل هذا في عقلك اللاواعي ! .. تعلموا أيها العرب .. تعلموا كيف تخاطبون العالم بلغة العصر هذا .. استغلوا الفن وأي أسلوب حضاري آخر لتتحدثوا عن حروبكم والإبادات الشنيعة التي حصلت بحقكم عبر التاريخ .. نحن من نستحق هكذا فيلم لا هم !

4

Glee هو مسلسل أمريكي أتابعه من فترة , للوهلة الأولى تعتقد أنّه مسلسل آخر من تلك المسلسلات التي تتحدث عن “الهاي سكول ” والمواعدة والقصص الأمريكية إيّاها , ثم تكتشف أنّ هناك قصة أخرى ..
لأكن صريحة جذبني المسلسل بسبب الأغاني التي فيه وتجديدها بتوزيعات موسيقية جديدة مع رقصات وأداءات عالية المستوى الفني ( هناك فيديوهات واستعراضات أشاهدها يومياً وأنبهر بها في كل مرة ) , غنّى أبطال مسلسل Glee الكثير من الأغاني القديمة والجديدة ووظفوها لتعبر عن قصة معينة في كل حلقة من حلقات المسلسل .. إلى هنا والأمور تمام ..
في الجزء الثاني من المسلسل تم التركيز أكثر على قضية المثلية الجنسية وأمور أخرى حساسة لا تزال تثير الجدل إلى اليوم في المجتمع الأمريكي الذي يُعتبر محافظاً إلى حد ما .. أمور مثل gay parenting , حمل المراهقات .. إلخ إلخ وتم إظهار هذه الأمور بشكل إيجابي جداً من خلال شخصيات تأسر الاهتمام ( مثل شخصية Kurt الذي لا تستطيع إلا أن تتعاطف معه ) .. طبعاً ترى في الجزئين أسماء صهيونية كنيتها Israel ( كصحفي المدرسة ) مع وجود أبطال يهود متدينين والتركيز على ” إسرائيل ” كدولة من خلال عرض بعض المخترعات في إحدى الحلقات ونسبها لعالم إسرائيلي ( هكذا !) ..
بغض النظر عن رأيي في المواضيع السابقة , فإن Glee نجح في إيصال و”تمريق” الكثير الكثير من الأفكار في صور فنية جميلة لا يستطيع عقلك اللاواعي أن يكرهها .. فما بالك بتقبلها مع الوقت ؟
ما أريد قوله أنّ الفن والأدب هما سلاحا العالم الحالي شئنا أو أبينا .. تستطيع تربية أجيال كاملة على ما تريده من الأفكار مهما بلغت تطرفها أو غرابتها .. هكذا هو التكتيك في هذا العصر .. ولانزل نحن إلى الآن نصر على أن نوصل أفكارنا عن طريق العنف والأصوات العالية ! .. من يريد توصيل منهج أو إيديولوجية ما عليه سوى أن يمتلك وسائل الإعلام كأداة , أو حتى قناة أدبية ما .. والتسويق مهم بالطبع مع الابتعاد عن المباشرة والضحك على عقل المتلقي ..
الفن .. الفن هو المسيطر وله كلمته الحاسمة .. أعرف أن كلامي هذا قد يبدو قديماً ومكرراً .. لكني أقف مبهورة أمام جرأة Glee ومنهجيته !
والآن أترككم مع هذا الفيديو من Glee :

14-9-2014

هديل خلّوف ..

13
سبتمبر
14

مدونتي في فوضى .. وكذا هي أفكاري !


62109_428062540609388_225994651_n
لا بد لكل واحدٌ منّا في لحظة ما من حياته بأن يتوقف قليلاً للتفكير في ذاته , ولا أقصد بكلامي هذا ذلك التفكير الذي يسبق النوم عادةً .. لابد وأنك مررت بلحظة ( أو أنك ستمر بها حتماً ) وقلت لنفسك فيها : هييييييه توقف .. إلى أين أنت ذاهب ؟! .. لحظتي أنا قد جاءتني منذ أيام لأقول فيها : من – أنا – حقاً – ومالذي – أريده- حقاً – من- حياتي – هذه ؟
أما من أنا , فقد اكتشفت أنّي قد أضعت جزءاً كبيراً من ذاتي في السنتين الماضيتين .. ما السبب ؟ ربما لأن العالم قد انقلب وارتج من حولي وصار لزاماً علي التكيف أو تضييع ذاتي كيلا يضيع عقلي ! .. قد يكون السبب أنّي قد كبرت أخيراً .. نضجت .. لأني أدركت أن الواقعية هي المجدية في النهاية .. كفاني سذاجة وعيشاً في الأساطير وقصص الأميرات الخيالية .. !
أما مالذي أريده في هذه الحياة , اتضح أني أريد الكثير من الأشياء .. الكثير والكثير لدرجة أنّ حياة واحدة لاتكفي .. بل هديل واحدة لا تكفي أيضاً !

طيب ما الحل ؟ أين أنا من كل هذا ومالذي أريده حقاً ؟

عدت إلى يومياتي القديمة .. أقرؤها وأعيش إحساس فوضى تلك الخطوط الزرقاء المكتوبة على عجالة .. هكذا إلى أن بدأت في استعادة نفسي ما قبل الحرب .. استعدت تلك الأيامات التي كنت أكتب فيها من على شرفتنا وبجانبي صحن كرز .. أو ملتحفة بذلك الغطاء الذي كنت أعشقه .. الملون جداً كثوب فلاحة روسية ..

أنا الآن في السادسة والعشرين جالسة في الظلمة على سرير لم يكن سريري قبل سنة من الآن .. أمام حاسوبي المخلص المتهالك الذي كان معي في كل تنقلاتي والذي احتوى عالمي الافتراضي كله .. أستمع إلى أغنياتي التي عرفتها في هذه السنتين وأغلبها تثير العاطفة بالمناسبة .. أنا الآن قد استعدت زمام نفسي وأخيراً وعدت إلى توازني القديم وكما تقول جنيفير لوبيز في أغنيتها التي تهدر الآن في أذني  ( ياللمصادفة ! ) : i guess i found my way .. it’s simple when it’s right .. feeling lucky just to be here tonight .. and happy .. just to be me .. and be alive ..

=)

22
جوان
14

رجلٌ من مدينتنا ..


صوت المروحة الرتيب ولسعات البعوض يرهقان الأعصاب , لزوجة الهواء هذا .. وألم ضرس العقل .. هذا يوم مناسب جداً ليتحول إلى قاتل .. هكذا كان يفكر الموظف الحكومي حسام .. لقد قرأ مرة عن رجل قتل آخرين فقط لأنه كان يشعر بالحر ! .. جلس يتذكر أين قرأ هذا .. أين ؟ آ .. ألبير كامو ! .. ابتسم ساخراً وضرب بعوضة على قفا يده .. هاقد بدأ ينسى هذه الأشياء .. كامو وسارتر وفلسفة الوجودية والعبث أشياء صارت بعيدة جداً عن عالمه , مذ تحول من طالب جامعي متحمس إلى موظف حكومي .. لا لا .. ليس هنا .. لقد بدأ ينسى ذاك العالم مذ تعرف إلى سمر .. أحس بأنّه يكرهها عند هذه النقطة .
تررررن .. تررررررررررن .. ترررن .. آلو .. من معي ؟ .. اتصل بعد نصف ساعة فهناك الكثير من المراجعين .. أهلاً .
لملم أوراقه الفوضوية وخطر له أن يتصل بسمر , ثم فكر أن سيجارة مع فنجان القهوة الثالث سيكون مفعولهما مريحاً أكثر لأعصابه .. اتجه إلى النافذة وطفق يراقب المارة وهو يلعن الحياة التي لم تعرف قيمته .
في المساء كان الطقس أفضل وكان هناك بعض النسمات الصيفية .. رآها من بعيد ترتدي بنطال جينز مع كنزة صيفية وردية أهداها إياها يوماً , حيته بحماس طفولي وكأنها لم تره منذ أمد .. ثم جلست تثرثر عن يومها وعن صديقاتها وعن أساتذتها في المدرسة .. لو كان الآن في دولة أوربية متحضرة لاعتبر مذنباً إذ يواعد قاصراً .. أبعد هذه الفكرة عن ذهنه بعنف عندما تذكر أنّ ” نيته شريفة ” وأنّه سيتكلم مع أهلها قريباً بشأنها .. ستفوز هذه البلهاء برجل حقيقي سيكون له شأناً يوماً ما .. سحقاً للقوانين المتفزلكة التي تجعلنا نرى الأشياء على غير ما تبدو عليه !

كم تعجبه سذاجتها واندهاشها الدائم , وكم يشعر بالنشوة عندما يرى الانبهار في عينيها عندما يحدثها عن روسو وسارتر .. هو يعرف أنها ستنسى هذه الأسماء بمجرد ما ينقلب الحديث إلى تلك المرأة البدينة في الطاولة المجاورة أو إلى أغنية تلك المغنية الحديثة وهذا يزعجه أحياناً .. لكنه لا يستطيع إلاّ أن يحدثها عن هذه الأشياء .. هذه الأشياء التي يعشقها هو .. ألن يصبح فيلسوفاً يوماً ما كما تقول له سمر ؟في مساءٍ ما بعد عشر سنين من الآن , سيعود حسام إلى المنزل حاملاً بطيخة بيد وكيس ورقي يحوي خضراوات أخرى في اليد الثانية .. ستكون مقدمة رأسه صلعاء تلتمع بعض حبات العرق عليها .. سيلهث متعباً ويلعن هذه العيشة وهذه الحياة التي لم تعرف قيمته .. لكن ليلاً سيكون هناك سمر التي ستظل تضايقه بسذاجتها واندهاشها الطفولي أبداً .. ستعود وتملأ أذنيه بأحاديثها عن الجارات ومشاكل الأولاد الأزلية .. ثم سيحدثها هو عن كامو وروسو وسارتر .. ستتسع عيناها مجدداً في انبهار وكأنها تسمع عنهم للمرة الأولى , ثم ستؤكد له – بخبثها الفطري المتوارث – بأنه سيصبح مثلهم يوماً ما .. وسينام حسام راضياً عن نفسه وعن سمر وعن الحياة !
هديل خلّوف
22-6-2014

13
ديسمبر
13

بوح راشد !


رحلة التسوق لشراء الحفاضات والبقوليات ومتطلبات طبخة اليوم قد تصبح رحلة حقا .. رحلة إلى ذلك الجزء من عقلك الذي لم تدسه أفكارك منذ .. منذ أكثر من عشرين عاما .. رحلة إلى الماضي ..
هناك في قسم الألعاب رأيته .. في المركز التجاري في تلك المدينة الغريبة لكلينا , لم أكن أعلم أنه يعيش في هذه المدينة بالذات ..
لقد كان هو .. بقامته الممشوقة التي سحرتني في تلك الأيام السحيقة , بنظارته الطبية ذات الإطار الفضي , بصبيانية حركاته ونزقه .. لكنها الآن تلبس طقما رجاليا جدا ..
وهذه الخصلات الفضية أهي شيبا على فوديه ؟ مع فادي يكون كل شي ساحرا .. حتى الأربعينات من العمر .. هل تذكر أيامنا يا فادي ؟ هل تذكر تلك الشابة الطائشة المجنونة التي كنتها أنا ؟ هل تذكر ياسمين ؟
—————————————–
من قال أن المرأة في الأربعينات تكون في خريف العمر ؟ تعالوا إذا يا حمقى وشاهدوا ياسمين وهي في الأربعينات لتدركوا فداحة خطأ رأيكم هذا .. أعلم أن ما سأقوله سخيفا وربما لا يصدق ، لكني أقسم لكم بما تؤمنون به بأني رأيتها مصادفة في مركز تجاري في هذه المدينة الغريبة .. لم أكن أعلم أبدا أنها من طائفة المهاجرين ولم أتوقع يوما أن تكون .. أستطيع من موقعي هذا أن أرى ياسمين الجميلة التي زادتها الأربعينات شيئا محببا لا أستطيع وصفه .. خطوط الضحك حول عينيها قد أصبحت أوضح الآن فزادت وجهها إشراقا وجعلته مبتسما دون أن تضطر لافتعال الابتسام والضحك .. ياسمين الآن امرأة مكتملة .. أتساءل إن كانت لا تزال محتفظة بجنونها الشاب الذي قادني للجنون يوما أنا الآخر ..
————————————–
لقد تزوجت من أوربية إذن أيها الشقي .. قال لي هذا شعر طفلك الأصفر جدا .. ألا تزل ذلك المتحذلق المتمرد الذي يرفض الإيمان بأي شيء حتى حبنا في تلك الفترة ؟ مالذي علمتك ياه السنون العشرين الماضية ,ها ؟
كم أود لو أترك ما بيدي الآن وأركض لأعانقك وأتعلق بك بكل جسدي كما كنت أفعل سابقا .. كنت تقول لي بهلع : يا مجنونة , ألا تخافين من عيون الناس حولنا ؟ من أين تأتين بهذا الجرأة كلها يا فتاتي الشرقية ؟
كم أود .. كم أود أن أمتلك عصا سندريلا السحرية الآن , أو .. أو جني علاء الدين ..أو أية وسيلة أخرى لتعيدني إلى ياسمين أوائل العشرينيات .. لو كنت أعرف أني سألتقي بك هنا وفي هذا السن بالذات لارتديت غير هذه الملابس التعسة على الأقل .. لا أريد أن ترى من ياسمين ربة منزل اعتيادية بعدما كنت تراها ربة الجمال والشباب والجنون .. أوبس علي أن أترك علبة الحفاضات هذه من يدي على الأقل .. !
——————————
طفلتك التي تجلس في عربة المشتريات جميلة مثلك ياسمين .. ومظهرك وأنت تتبضعين وترمين علبة حفاضات الأطفال بشيء من العجلة والحرج يعزز في ذهني أنك أنثى حقيقية حقا .. أنثى قادرة على أن تكون عاشقة وحبيبة وزوجة وأما .. إمرأة حقيقية أنت ياسمين .. إن كان هناك ما ينقص في حياتي الماضية فهو رؤيتي لك بالفستان الأبيض .. من الوغد المحظوظ الذي تزوجك ؟ إن التقيت به يوما ما فسأقول له : وغد محظوظ أنت .. حافظ على الياسمين واعتن به ..
كم كنت أحمقا أنا إذ لم أفهم علم الأزهار .. أنا لا أستحق الياسمين ولا الجوري ولا أية ورود محلية ..
رفعت نظارتي إلى فوق أنفي وتظاهرت بالوقار والتحذلق .. ألم تعشق هي هذا يوما ما ؟
………………………………
في أحد المراكز التجارية , وفي قسم الألعاب بالذات , مرت عربتا تسوق باتجاهين متعاكسين وتلامستا للحظة عابرة من جانبيهما .. كان وراء الأولى رجل وسيم أشيب الفودين يركض ابنه وراءه حاملا لعبة .. الثانية تدفعها امرأة اعتيادية المظهر يبدو أنها تتسوق تسوقها اليومي ولا تعير انتباها كبيرا لبكاء طفلتها المزعج ..
في لحظة تلامس العربتين التقت أعينهما وأعطى كل منهما ابتسامة راشدة مهذبة مع هزة بالرأس تفيد بأن كل منهما قد عرف الآخر .. ثم مضى كل واحد بطريقه يلوك خيالاته الشابة وأسئلته التي استيقظت دون أن ترى النور أو الإفصاح !
هديل خلوف
٧ -١٠ – ٢٠١٣

04
جويلية
13

لحظة ما ..


صورة

في اللحظة صفر كان المشهد مظلماً جداً..

أعرف أنّ ما سأقوله قد يبدو مستهلكاً للبعض .. محزناً للأغلب .. مؤلماً بالنسبة إلي .. لكني سأتحدث على أية حال .. سأتحدث عما قبل اللحظة صفر أيها السادة .. عن الوقت الذي كانت لي فيه عيوني الخاصة ولوني الخاص وكياني الملموس الخاص .. كانت مسطرة الـ”تي” صديقتي اليومية وتذكرتي للمستقبل وهي رافقتني حتى اللحظة صفر بالمناسبة في معاهدة طيبة منها على ملازمتي في السراء والضراء , لكن .. دعكم منها .. دعوني أتحدث عن سارة .. سارة إن كنتم لم تستنجوا ذلك فهي الفتاة التي أحلم بها وأعيش لأجلها وأدرس بل وأحب الهندسة كرمى لها .. في تلك اللحظات ما قبل اللحظة صفر كنت أحدثها على الهاتف وكانت هي تضحك بتلك الطريقة التي أعشقها .. كانت تسألني إذا ما كنت قد درست جيداً لأنقلها أثناء الامتحان , وكنت أنا أجيبها بـ (لا ) ضاحكا .. سارة تثرثر .. سارة تمزح .. سارة تضحك .. وبوووووم .. سارة يتلاشى صوتها ويبتعد ..

 

في اللحظة صفر كان للهواء ثقل ..

لا تسخروا من مظهري رجاء .. أعرفكم أنتم أبناء المدن عندما ترون قروية عجوز تلبس ذلك الثوب المليء بالأزهار كيف تتهامسون وتنظرون بتعالٍ أحياناً خصوصاً إذا ما كنتم إناثاً .. نعم أنا قروية عجوز ألبس من تلك الأثواب وذقني مليئة بالوشوم الخضراء .. هه ما رأيكم ؟ بعد اللحظة صفر لا يعد الإنسان يهتم بكل تلك الفوارق والمظاهر وآراء غيره أيضا .. تقولون مالذي كنت أفعله هناك إلى جانب طالب الهندسة المتعالي الذي يقهقه على الهاتف ؟ أنا أبيع الخبز .. بعدما صار بيتي كومة غبار انتقلت إلى المدينة لأجرب حظ ما تبقى من حياتي .. تلك المدرسة صارت بيتي الجديد وبيع الخبز صارت مهنتي الجديدة لآكل .. قبل اللحظة صفر كنت أتنسم عبق الخبز الجاثم في حضني وكنت راضية عن كل شيء تقريباً , لا بد أن لرائحة الخبز مفعول تخديري ما كتلك العشبة التي كان زوجي رحمة الله عليه يلوكها .. إذن كنت أتشمم الهواء الزكي وأمسد الأرغفة شاعرة بالأمان والدفء عندما بوووووم .. ولا شيء ..

 

في اللحظة صفر تختفي الجاذبية..

لماذا سميت باللحظة صفر على كل حال ؟ هل معنى هذا أن الحياة قبلها كانت سالبة مثلا ؟ ثم لحظة .. إذا افترضنا أن اللحظة صفر نقطة محورية فما هي الأبعاد المشكلة لتلك المحاور ؟ وأين أنا من الفراغ الذي يحيط بنقطة العلام تلك ؟ هييييييه أنا لا أنسى قط أني كنت أدرس الرياضيات .. أنا أيها السادة حالمة جدا وكنت على وشك أن أخرج بقصيدة رائعة بينما أسند رأسي إلى النافذة وأسمع لأغاني فيروز .. لم أحب ما أدرسه قط على الرغم من أني كنت بارعة فيه .. تستطيعون القول أني من أولئك متعددي المواهب الذين يرون في أنفسهم قدرات جديدة يوميا .. قبل اللحظة صفر كنت واعدة جدا .. حيوية جدا .. جميلة جدا .. ‘ في أمل .. إييه في أمل .. أوقات بيطلع من م.. ‘ وبووووم !

 

في اللحظة صفر لا يستطيع المرء أن يكون على طبيعته ..

من قال أن هناك أجمل أو أذكى من أطفالي ؟ من قال أن زوجي ليس أروع رجل في الكون ؟ نعم .. أنا كنت أقول هذا ! يا إلهي لا أصدق كم كنت غبية قبل اللحظة صفر ! أشتاق إليهم الآن جدا وأحسد نفسي قبل تلك اللحظة , فتاة الرياضيات المتحذلقة التي كانت بجانبي ستقول لكم أن الإنسان هو عبارة عن نسخ لا متناهية تعيش في آن معا في أبعاد مختلفة وأنه ليس هناك ماضٍ ولا مستقبل .. معنى هذا أن نسختي الماضية بنظري هي الآن في بعد ما توبخ أطفالها وتلوم زوجها لأنه ليس أروع رجل في العالم .. أرجوك يا نسختي .. أنت لا تريدي أن تمري باللحظة صفر المريعة لكي تدركي ذلك .. كنت أقول للسائق أن يتوقف على الزاوية عندما بووووم !!

 

في اللحظة صفر تلعن الساعة التي أصبحت فيها سائق ميكرو عمومي !

أنا السائق إياه .. وباصي المنكود سيء الحظ كان في المنطقة التي فجر فيها انتحاري ما باصه .. شتان ما بين سائق وسائق .. أنا سائق أحترم مهنتي ولا أقوم بتفجير نفسي من أجل أشياء لا أعرف شيئا عنها ..لابد أن ذلك الانتحاري هو نفسه الذي ‘ دوبل علي ‘ وانهالت عليه شتائمي .. هذا الانتحاري عار على المهنة والحق يقال .. لم أعد أسمع شتائمي في اللحظة صفر .. فقط لعنت حظي في سري ..

 

(نحن مجرد عينة من أبناء اللحظة صفر خطر لنا فقط أن نشارككم لحظة محورية غيرت حياتنا حرفيا .. لحظة تسمعون عن نتائجها في نشرات الأخبار كثيرا دون أن تعلمون ما كانت عليه تلك الأشلاء التي ينتشلونها بالملاقط .. يقول جيم كاري في عالمكم ‘ الحياة شيء مضحك مضحك ‘ .. أما نحن فنقول ‘ الحياة شيء عبثي عبثي ‘ .. يجب أن تكونوا أشخاصا يضجون بالحيوية والأحلام وينسف كل ذلك بلحظة لكي تفهموا ما نعنيه .. هكذا علمتنا اللحظة صفر فلا تلومونا ! )

٢٤-٠٦-٢٠١٣

 هديل خلّوف

12
ماي
13

فيمينيست !


24-feather

لرائحة الكولونيا تلك ألف حكاية وحكاية عند بيترا , يشابه تأثيرها تأثير عبق أوائل الربيع برائحة نسغ عشبه المجزوز مختلطا بالرطوبة الناتجة عن مطر الصباح ..
أفاقت قبله – كما كل يوم – بنصف ساعة وهي المدة التي تكفيها لكي تعد له الفطور , قبل أن تنهض من السرير تحب مراقبته وهو نائم .. ثم تبدأ بالنظر إلى أشيائه الكثيرة , شرائط ألعاب الفيديو .. كتبه المبعثرة .. نظارته ذات الإطار الفضي والموضوعة بعناية على الكومود بجانبه .. لا تصدق إلى الآن أنها أصبحت جزءا من عالمه !
معه فقط تعلمت أن تترك كل الهراء الذي كانت تنادي فيه عن ضرورة مساواة المرأة بالرجل تماما وعن إلزام الرجل بالعمل داخل المنزل مثله مثل المرأة , لو أن إحدى صديقاتها قالت لها قبل سنة من الآن أنها تستيقظ قبل زوجها لتعد له الفطور لصدعت رأسها بمحاضرات من طراز ‘ كرامة المرأة ‘ و ‘ محو ثقافة الجواري من العقل اللاواعي عند المرأة ‘ وبلا بلا بلا .. ابتسمت وهي تقشر له التفاح – ثمار الخطيئة الأولى – ستقدمها له بعد قليل كما فعلت أولى جداتها .. ستبتسم له عندما يبدأ بالتذمر بخصوص الشاي الساخن الذي أحرق فمه وربما ستؤنب الكوب الشرير أمامه كما تفعل أمام أي طفل يقع في هذا الموقف .. ألم تقل لها جدتها يوما أن الرجال ليسوا سوى أطفال كبار ؟ وقتها احتجت وقالت للجدة : بل هم مشاريع قتلة .. جميعهم ..
رائحة الكولونيا تلك .. كم تثير في نفسها من ذكريات !
عادت إلى الغرفة وهي تحمل الطعام , بدأت بإيقاظه بطريقتها ذاتها .. خللت أصابعها بخصلات شعره الثائرة أبدا .. وبدأت بمناداة اسمه بصوت خافت .. يستيقظ هو دوما هكذا ..
قبل سنين عديدة عرفت هذه الرائحة للمرة الأولى عندما كانت في بريطانيا , وجدتها رائحة غريبة عن المكان وقتها .. بريطانيا حيث كانت تحضر رسالة دكتوراة حول قضية من تلك القضايا المتعلقة بالمرأة .. كان هناك الكثير من المؤتمرات حول المرأة في الشرق الأوسط والعنف النفسي الذي يمارس ضد المرأة في العالم بشكل عام .. في هذه المحافل كانت بيترا دائما هناك .. وفي تلك المحافل كان هو هناك أيضا !
في أوائل العشرينيات من عمرها كان هناك وسيم الذي أحبته لكنها لم تستمر معه بسبب طموحها بالسفر وإكمال الدراسة .. في الثلاثينات أصبحت من أولئك النسوة اللواتي وصلن إلى مرحلة من كره الرجال تصل إلى أن يكرهن أنوثتهن بسببها .. ثم ظهر هو ..
لا تعرف كيف استطاع شاب مثله جذب اهتمامها وقلب مفاهيمها ..
راقبته وهو يأكل وابتسمت .. لم تكن تعتقد يوما أن أشياء مثل إعداد الفطور لرجل وترتيب أشيائه قد يجلب لها السعادة .. اكتشفت في نهاية نضالها أن الحب عند الأنثى هو شكل من أشكال الأمومة التي لا تستطيع معه المرأة مقاومته عندما تكتشف ذلك الطفل الموجود في رجل ما تلاقت حياته بحياتها في إحدى نقاط الزمان والمكان المشتركة .. فكرت في أن عليها إعادة النظر في شهاداتها التي حصلت عليها سابقا .. !
هديل خلوف
١٠-٠٥-٢٠١٣

19
ديسمبر
12

أدرينالين


لم يكن هذا الصباح ككل الصباحات بالنسبة لمنير .. فهذا الصباح أيها السادة قد يشهد موته !

استيقظ منير بغصة في حلقه وبرودة في أطرافه , لم يكن يدري أهو من تأثير الخوف أو من النوم على بطانية رقيقة في ” عز ” كانون .. هذه الأمر لا يعنيه الآن على أية حال .. ما يعنيه هو مستقبله  إن كان لديه مستقبل .. تردد قليلاً ولم يستطع النهوض عندما تذكر أن ما يحدد ذلك هو مشواره اليوم .. هرش رأسه وكأنه يريد تثبيت الزمن عند هذه اللحظة .. لا يريد النهوض من على الأرضيه , لكن يجب عليه ذلك .. ” مصدقة التخرج اللعينة لمَ لم أجلبك معي ؟؟ ”   أطلق سبة عالية وودّ الصراخ لكنه لا يريد إيقاظ محمود .. أخذ نفساً قوياً ونهض لكنه تعثر بالكرسي الحديدي الصدئ , هذا الكرسي هو ما يعطي بعض “الديكور ” للغرفة الكئيبة الكالحة الملحقة بدكان والد محمود والتي كانت تُستخدم كمخزن للبضائع في إحدى الأيام .. بعد صراخ الكرسي شقّ سكونَ الصمت صوت محمود وهو يغمغم بين مُستيقظ ونائم : مثلما قلت لك .. عندما تصل إلى أول المفترق تقطع الشارع إلى الرصيف المقابل راكضاً ثم تمشي أسفل المباني .. ملاصقاً للحائط كما قلت لك هل تفهم ؟ همممم ؟

– ادعُ لي

– الله يحميك

لم يكن منير ممن يهوون الهيستيريا لحسن الحظ وإّلا لبدا موقفه عسيراً في هذه اللحظة بالذات , لحظة أن ألقى نظرة على الغرفة وجسد محمود الغارق في الظلال غير عالمٍ أستكون تلك النظرة الأخيرة لهذا المكان الذي شهد أنفاسه منذ مالايقل عن 3 أشهر ؟

أغلق الباب بتؤدة وانسل الدرج مدفوع بعزيمة لم يعرف مصدرها .. ربما هو الشعور بالرجولة والشجاعة وتدفق الأدرينالين في عروقه .. ربما هو مستقبله .. سنوات دراسته الخمسة التي لا يريد أن يضيعها هباءً .. ربما لأنّ الخوف قد بلغ أشده لديه فلم يعد يشعر بأي شيء ! .. هو لا يدري حقاً

كان الجو ماطراً عندما وصل إلى هناك .. قطرات المطر تؤنس وحشة المكان وتضيف لمسة سوريالية ما على المشهد العام .. لم يكن يدري أنّه سيشهد شيئاً مماثلاً يوماً .. تشمم الهواء الرطب فوجد رائحة أخرى تخالط رائحة المطر .. رائحة لم تعجبه .. رائحة أرهبته .. تطلع إلى الشارع العريض أمامه  .. هنا مسرح الموت إذاً .. هنا قُتل العشرات برصاصات مقصودة دون أن يعرفوا لماذا .. هنا سوف يركض بعد لحظات .. هنا سيكون الفيصل بين مستقبله وماضيه ..

استند إلى الحائط وصار يسلّي نفسه بتحريك قطع أحجار بقدمه وتمنّى مجدداً أن يتوقف الزمن إلى الأبد هنا .. لماذا على الإنسان أن يقرر ؟ لقد كانت تقول له أمه دوماً ” اللي خلق علق ” .. الآن يفهم معنى هذا القول الشعبي .. لقد خُلقنا وسوف نموت يوماً ما .. الموت .. هنا “العلقة ” المحكمة .. مهما عشت حياةً سعيدة مرفهة حققت فيها ما تريد فلابد أن تأتي تلك اللحظة .. لحظة انقطاع التيار عن مخك فيسود الظلام .. من خُلق فقد عُلق .. ترى كيف يكون مذاق الرصاصة لحظة اختراقها لتلافيفك المخية ؟ كيف سيكون تعبير وجه “القنّاص ” ؟ هل سترتاع الطيور من صوت الطلقة وتطير ؟ هل ستختلط رائحة دمك برائحة المطر ؟ هل سيذكرونك يوماً ؟ هل سيجدونك هنا ليواروا جسدك أصلاً ؟

” لين .. يا نسمتي الرقيقة .. سامحيني إذا ما قُتلت .. لقد كنت أدافع عن مستقبلي المحتمل .. لقد .. لقد .. جربت قدري فلم أنجُ .. لييييييين .. اذكريني وقبلي طفلتنا التي لن تولد يوماً .. أنا أحبك لين ” .. لا يعرف كيف انهمرت دموعه واختلطت مع قطرات المطر .. أخذ نفساً عميقاً – بشكل أكبر في هذه المرة – وقرر أن يكون شجاعاً لأجلها .. ركض وركض وركض وصار غشاؤه الطبلي يهتز لأصوات لم يعرف أهي طلقات القنّاص أم صوت قطرات المطر وقد ازدادت حدة .. وصل إلى الرصيف المقابل واستند إلى الحائط ومشى ملاصقاً للجدران وهو يتذكر نصيحة صديقه محمود .. قلبه يرتجف كورقة .. لم يذكر أن قلبه قد وصل إلى هذه المرحلة من الرجفان في حياته .. حتى وهو يعترف للين بحبه للمرة الأولى لم يصل إلى هذا الحد ! ..  تذكر أن لا وقت لديه وأن عليه أن يقطع شارع الموت للمرة الثانية لذلك نفض عنه تلك الأفكار وواصل المشي إلى بيته الحبيب .. بيته الذي لم يره منذ أربعة أشهر ! .. أيضاً .. لم يبكِ في حياته مثلما بكى الآن .. وهو يتسلق الدرج المتداعي .. وهو يزيح الباب , نعم يزيحه .. لقد كان بلا قفل .. وهو يخوض في البقع الآسنة التي ملأت بيته .. لا يدري أبقع ماء أم دماء أم أشياء قذرة أُخرى .. بحث عن خزانته فلم يجدها .. عن سريره فلم يجده .. عن دمية أخته .. عن كتب أخيه .. عن كتاباته المجنونة .. عن رسائل لين .. عن رائحة .. عن ذكريات !

نزل إلى أول المبنى متداعي الكتفين والرأس هو الآخر .. مشى ملاصقاً للجدار من جديد .. استند إلى الحائط .. ونظر إلى شارع الموت .. لم يستطع أن يدفع بقدمه ليضعها على أول الطريق .. لقد كانت – اللعينة – ترتجف بشدة .. فرك كفيه ببعضهما علهما يكفان عن الارتجاف هما أيضاً .. قلبه هو الآخر يحتاج من يهدئه .. عيونه لا يستطيع الرؤية من خلالهما .. لقد فاق هذا البكاء بكاءه الأول في هذه الدنيا رعباً ورهبةً وحزناً .. تذكر المستقبل من جديد واختنق صدره .. لقد صارت الغصة الآن أوضح وأشد قسوة .. تمنى لو يقف الآن في منتصف الطريق ليفتح يديه للقنّاص ويقول : هييييييييييييييييييييييييييييه .. اقتلني أيها الوغد .. اقتلني يا جبان .. لقد تجردت من أعز ما أملك .. من ذكرياتي .. أتفهم ؟ اقتلني وخذ صورة بعدها لابتسامتك الوحشية الوقحة وأنت تحقق صيداً جديداً .. اقتلني في رأسي أو ظهري أو قلبي .. لا يهم .. فقط سدد جيداً ..

أمسك رأسه ونشج بحرارة وتداعى على الجدار ثم تكور على نفسه وانهار ثم همد .. وجيف قلبه لم يعد يحتمل .. عقله لم يعد يحتمل .. لقد سبق الحزن والغضب طلقات الرصاص وأجهزا عليه ..

18-12-2012

هديل خلوف

19
أكتوبر
12

خربشات مجنونة !


لللا للاا لا لااا للا .. هل جربتم أن تسدوا أذنيكم وترددوا هذا الكلام لئلا تسمعو ما يزعجكم ؟  لا داعٍ لهذا اليوم في عصر بات فيه سماعات صغيرة تدخل إلى أعمق أعماق أذنك وتسمعك ما تريد وتفصلك عن الواقع .. من الواضح طبعاً أنّي مفصولة عن الواقع تماماً الآن وإلّا ما كنت تجرأت على كتابة خربشات ومجنونة وفي آخر الليل وأنا على وشك النعاس وفي  أذني سماعات تنقل لي أغانٍ وموسيقا بصوت مرتفع جداً ! .. أمّا لماذا أتعمد أن أكون مفضولة عن الواقع فهو سبب ليس مهماً جداً .. مجرد صوت قذائف وقصف حربي ورصاصات من أسلحة خفيفة وثقيلة وزائدة الوزن تزهق أرواحاً في هذه اللحظة .. أرواحاً سورية طبعاً .. كل هذا لا يهم ( ياللسخرية ).. لقد أصبح هذا معتاداً على أيّة حال .. وفي اليوم الذي لا أسمع فيه أصواتاً من هذا الطراز أحس بأن خللاً ما قد أصاب نواميس الكون .. هذه الأصوات معتادة لكنها مرتفعة أكثر من اللازم كما تعلمون ولا تصلح لأن يتسلى المرء في سماعها في جلسة رومانسية مع نفسه و.. لماذا أخرج عن موضوع الخربشات المعتاد ؟ عندما أقول خربشات يعني أن هناك أغان عشوائية تدور في أذني , ويجب علي أنا أن أعرض آرائي المتواضعة في الحياة من خلالها ..

قال قايل إشيا بشعة عني ! .. معليش معليش .. أخبارك مش عبتطمني ! .. معليش معليش ..

أخبارك يعني كلا منيحة ؟.. معليش معليش .. حمدلله يومية فيا فضيحة ! .. معليش معليش ..

قال قايل عن حبي وحبك مش حلو .. تذكرلي بحياتك هالحب أديه إلو .. وإذا كاين حلو , وصفا مش حلو .. إلك مني وعليي عيدو من أولو !

الللللللله يا فيروز وزياد .. هذا هو الحب حقاً .. أن تحب أزعراً ذو فضائح يتكلم بالسوء عنك من وراء ظهرك .. ومع ذلك .. ومع ذلك .. قلبك الأحمق يهواه ! إذا لم يكن هذا هو الحب فأنا لا أعرف عن الحب شيئاً ! .. هذا هو الحب أيها السادة .. نقطة وانتهى .

إلى الأغنية التي بعدها .. و .. تراتااااااا .. ناااااانسي عجرم .. لقد بدأت هذه الخربشات تأخذ طابعاً سخيفاً بعض الشيء والحق يقال .. لكن دعونا نسمع إلى ما تقوله هذه ..

في حاجااات تتحس وما تتقلش .. وإن جيت أطلبها أنا ما قدرش ! ولو إنت عملتها بعد مانا أطلبها يبقى ما ينفعش !

في حاجااات تنحس وما تتقلش .. توجع في القلب وما بتبنش .. وأفضل على طول تعبانة ما بين طب أقوللك ولا ماقولكش !

إن تغاضينا عن اللهجة الثقيلة وتكرار حرف الشين في آخر المقاطع فإن هذه الأغنية جيدة حقاً وتحمل قدراً لا بأس به من التأمل نسبةً لأغانيها الباقية لهذه النانسي .. إن نانسي تحاول بطريقتها البسيطة شرح تراجيديا يومية تصادف أي واحد فينا .. لننتقل إلى الحب ثانيةً مثلاً .. ما أقسى أن تطلب الاهتمام طلباً من الشخص الذي تحب .. مثلاً تتألم لأنه لا يسأل عن حالك يومياً فتطلب منه أن يفعل .. فيفعل .. لكنك تجد نفسك متألماً أكثر كلما سألك عن حالك لأنه بذلك يذكرك في كل مرة بأنك أنت من طلبت منه ذلك وأنّه لم يكن يفعل قبل أن تطلب منه ذلك .. فلسفة ها ؟ لقد اختصر جبران هذه الحالة بجملة قصيرة عبقرية لا أتذكرها .. وأنا لست جبراناً طبعاً فلا تتوقعوا مني أن أشرحها ببراعة إذاً .. !

و please forgive me !  لبراين آدامز .. أغنية المراهقة والمدرسة الثانوية والرومانسية البلهاء في ذلك الوقت ! كم تثير هذه الأغنية حنيني لتلك الأيام السخيفة العزيزة ! .. الأغنية جميلة وتذكرك بتلك الأيام إن كنت تسمعها في تلك الأيام !

الآن أغنية لفريق تاتو اسمها gomenasai  وهي – إن كنتم لا تعلمون – المرادف الياباني لكلمة “آسف ” العربية .. هذه الأغنية لدي معها قصة وقد أرسلتها مرة بدلاً من كلمة آسف .. هذه الأغنية بالذات تثير في نفسي الحنين .. ولا أزال كلما أسمعها أتذكر شعوري عندما كنت أسمعها في أيامها الأولى على حاسوبي .. أصواتهم رائعة هاتين الفتاتين ! أنصحكم بسماعهما فقط .. لا أكثر من هذا ..

وأغنية رقيقة لـwest life اسمها the rose أترككم مع كلماتها الجميلة وتصبحون على خير :

Some say love it is a river
that drowns the tender reed
Some say love it is a razor
that leaves your soul to bleed

Some say love it is a hunger
an endless aching need
I say love it is a flower
and you its only seed

It’s the heart afraid of breaking
that never learns to dance
It’s the dream afraid of waking that never takes the chance
It’s the one who won’t be taken
who cannot seem to give
and the soul afraid of dying that never learns to live

When the night has been too lonely
and the road has been too long
and you think that love is only
for the lucky and the strong
Just remember in the winter far beneath the bitter snows
lies the seed
that with the sun’s love
in the spring

becomes the rose

وتباً للواقع وتباً للواقع وتباً للواقع وتباً للواقع وتباً للواقع وتباً للواقع وتباً للواقع وتباً للواقع !!!

01
جويلية
12

الهروب إلى لا مكان ..


صورة

تتعثر منال في مشيتها وهي تعاند الزحام , أحدٌ ما يدوس على قدمها بفظاظة وآخر يضربها في وجهها بكوعه .. الضوضاء البهيمية تملأ أذنيها فتشعر بأن تلافيف مخها تكاد تخرج منها .. أمّا عن رائحة الهواء فلكم أن تتخيلوا !
تركض وتركض وتركض والدوامات البشرية تتكاثر أكثر فتجذبها إحداها ذات اليمين وتطوح أخرى بكل جسدها فتشعر بالتداعي ..
.لاتعرف لمَ تتذكر الآن وبوضوح كل شيء .. تسترجع الآن مشهد تناثر أزهار الكرز في الهواء وتعلّق بعض البتلات بشعره الناعم فيصبح الجو العام جدير بإحدى مسلسلات المانغا اليابانية .. تتنفس ذاك الهواء الربيعي المنعش ثانيةً وترى الصدق في عينيه عندما يقول : أحبك منال ..
تمسح بكمها عينيها وتكمل الركض المتعثر ..
– منااال أنتِ لا تجيدين سوى “العلاك ” ! تماماً كأبيكِ .. الكثير والكثير من الثرثرة على غرار  “سأفعل ” و”سترون” لكنكِ في الواقع راسخة في مكانك رسوخ أبي الهول .. “منظرة عالفاضي ! “
– كفى تحبيطاً يا أمي أرجوك .. إنّها الظروف !
– الظرف الوحيد الذي يمكن أن نضعه بالاعتبار هو أنّكِ كسولة !
ياه كم موجعٌ هو حجم الصدق في كلمات أمها .. صدق مهيب مريع يجعلك عارياً تماماً ..
يتكفل الآن أحد البدناء بإطاحتها على وجهها لكنّها تنهض بمقاومة وتكمل محاربة الجموع ..
أشجار الكرز ثانيةً والرائحة اللطيفة للهواء .. مالك ياماهر ؟ لم هذا الفتور في عينيك ؟ لمَ لم تعد أنت ؟ .. لأنّ الناس يتغيرون يا منال .. يتغيرون ..
– وماذا عن عهود حبنا ؟ .. ماذا عن أحلامنا المجنونة ؟ .. ماذا عن أزهار الكرز التي شهدت كل شيء ؟
يشيح بوجهه بعيداً .. لم تعد عيناه ترى ما تراه هي .. لم يعد يبصر أزهار الكرز ..
الناس يتغيرون يا منال .. يتغيرون ..
عادت الدمعة إلى الإفلات , لكن لاوقت لديها ولا مزاج في الانخراط بالبكاء وسط الجموع .. الطقس العام يتنافى مع الرومانسية الحزينة في عينيها .. للجموع رهبة والحق يقال ..
– ماهي مخططاتك الآن إذاً ؟ هاتي مالديك ..
– أمي أرجوك .. أنا لست كالأخريات .. أحب الأطفال والمنزل المستقل السعيد نعم .. لكنه ليس طموحي ..
– وما طموحك إذاً ؟
– أ .. ممممم .. لم أحدده بدقة بعد .. لكنه لا ينتمي إلى هنا أبداً .. لا أعرف كيف أشرح لكِ الأمر .. حسنٌ .. إذا قلت لك أنّ هناك زهرة رائعة بنفسجية اللون زجاجية البتلات سماوية الرائحة ولا تزرع إلّا فوق الغيوم فهل لكِ أن تحددي اسم الزهرة بالدقة وإلى أي فصيلة تنتمي ؟ طموحي مشابه لهذه الزهرة !
– أحب أن أقول لكِ إذاً تهانينا .. طموحك يشابه الزهرة تماماً .. كلاهما سراب !
– أحب العيش في الخيالات والسراب .. هذا هو طموحي إذاً !
– أنتِ فاشلة يا منال .. فاشلة .. فاشلة .. فاشلة
فااشلة .. فاااشلة .. لااااا .. تسدّ أذنيها وتهز رأسها علّ الكلمات تتزحلق عن رأسها وتموت ..
أزهار الكرز .. صوت أمّها .. هدير الجموع .. نظرة ماهر الساهمة .. الناس يتغيرون .. لم بحق السماء يتغيرون ؟؟ .. فااشلة .. زهرة ثلجية .. نظرات أمّها خائبة الأمل .. أزهار الكرز مجدداً ..
تهز رأسها بقوة وتريد الهروب .. تريد الهروب بشدة من نفسها من ماهر من نظرات أمها من أزهار الكرز   .. تخرج من الجموع باكية وتلتفت إليهم وتقول لاهثةً : تباً لكم جميعاً .. تبّاً لكم !

لقد استطاعت الهروب من الجموع .. لكن هل تستطيع الهرب من ذاتها ؟

هديل خلّوف

7-1-2012

09
مارس
12

خربشات سخيفة !


فلتبدأ الموسيقا وليبدأ المرح .. إن القراءة لمدة ساعتين ونصف دونما توقف لابد وأن تصيب المرء بالملل قليلاً مهما كانت درجة ” حب القرح ” التي لديه .. الكتاب الذي كنت أقرؤه منذ دقائق هو ” من أول نظرة ” لأنيس منصور .. كتاب interesting  هو .. نعم هذه هي الكلمة الأنسب .. الكتاب ممتع ومثير للاهتمام كونه يتحدث عن الحب والمرأة .. عن المرأة بشكل أكبر كونها منبع الحب والغموض معاً .. لقد وصلت للصفحة 220 فوجدت أنّي لم أبلغ نصفه حتى ! .. لكن ما علينا .. دعونا من هذا الملل وليبدأ المرح ومفاجآت الأغاني العشوائية .. والأغنية الأولى هي :

بتطلع فيها – راغب علامة !

هذه واحدة من الأغاني التي شدتني إلى سماعها من المرة الأولى .. هذه الأغنية فرضت نفسها فرضاً بلحنها الحلو والقصة التي تبدأ بلا مقدمات مستثيرة فضولي .. بعدما سمعتها بتمعن تبين لي كم سخيفة هي .. سخيفة جداً إن شئنا الدقة وكان يمكن أن تكون القصة أجمل من مجرد تنافس شابين على فتاة واحدة تجلس أمامهما وتوزع نظراتها فيما بينهما ! .. سخيفة لكنّي أحب سماعها دوماً ولا أزال أحتفظ بها في قائمة أغانيّ المفضلة !

White Horse – Taylor Swift

هذه الأغنية تشفي غليل كل فتاة خُدعت في الحب .. هذه الأغنية توقظها وتجعلها تكف عن لعب دور الغبية .. كل فتاة عندما تحب تتراءى أمامها قصص الجنيات ذات النهايات السعيدة فتحسب نفسها سندريللا أخرى تتزوج الأمير وتعيش في ثبات ونبات لتخلف صبيان وبنات إلى آخر العمر .. لكن الحياة ليست قصة من قصص الجنيات للأسف .. والشبان ليسوا أولئك الأمراء الذين لايرون من القصة إلا سندريللا البائسة أو تلك الفتاة النائمة دوماً التي يجب أن يحاربوا العمالقة والأشواك لإيقاظها .. في الحياة الحقيقية هناك أمراء ربما ..لكنهم يخدعون أولئك البائسات الهائمات بهم  غير العالمات بخيانتهم لهن .. الفتاة في هذه الأغنية قد أحست بالخيانة وقررت الكف عن الحياة في تلك القصص الحالمة على ما يبدو ! .. يعجبني هذا المقطع الذي تغنيه تايلور بلهجة تتناسب مع الموقف قائلة :

i’m not ur princess , this ain’t a fairy tale

i’m gonna find someone someday who might actually traet me well

this is a big world , that was a small town

now it’s too late 4 u and ur white horse to catch me now !

قوية :d

( تدخل هنا أمي الغرفة لتعطيني “سندويشة ” فتقاطعني عن الكتابة )

أين كنا ؟ .. أيّاً يكن .. الآن خطر لي أنّي قد مللت من رائحة الورق على ما يبدو وأنّ عقلي قد تبرمج على “طقطقة ” الأزرار في ترجمة أفكاري .. لم يعد منظر الأقلام والورقة البيضاء يستهوياني للكتابة .. وإلّا بماذا أفسر إقلاعي عن كتابة يومياتي واتجاهي إلى التدوين الإلكتروني ؟ .. صحيح أنّ إشهار أفكارك الشخصية أمام الناس لا يخلو من حب للظهور أو من احتمال تسخيفها من قبل الآخرين , ولكن .. بالله عليكم لمَ وُجدت المدونات ؟

اليوم كان ربيعياً بامتياز .. النوافذ مشرعة وأرض الشرفة اكتست بضوء برتقالي باهت باعث على الدفء .. سجادة غير مرئية تغريك بالجلوس وسطها دون شعور بالذنب على أنك تهدر شيئاً .. من حسن الحظ أنّ الشمس لا تعمل على الكهرباء .. هكذا تجلس دون أن تكون مطالباً بالتقنين .. هكذا هو الربيع .. كريم ودافئ وباعث على الحيوية .. لقد كانت كل الكائنات مبتهجة اليوم , أنا لم أرَ كل الكائنات بالطبع لكن هديل الحمائم والنملات الناعسات اللواتي بدأن بالظهور يدلانك على أنّ الربيع قد بدأ بفعل مفعوله .. تحت أشعة الشمس تشعر ألا شيء سيء يمكن أن يحدث , وعندما تقف في الشرفة صباحاً تحت أشعة الشمس الدافئة مع مشروبك المفضل تشاهد الحمائم وأنت تستمع لأغنيتك السخيفة المرحة عندها تتمنى أن يتوقف العالم عن الدوران وأن تغرق في لحظات السلام الداخلي تلك .. حيث لاانقطاع كهرباء ولا أخبار عن القتل والموت .. يستحيل أن يوجد مرض وموت في عالم تحكمه أشعة الشمس وزقزقة العصافير .. هكذا تكذب على نفسك وتتوهم في لحظات كهذه .. سذاجة ها ؟ .. لكن من قال أن السذاجة ليست جميلة وضرورية أحياناً ؟ لمَ نجد الأطفال سعيدين دوماً ويحبون اللعب ؟ لأنهم ساذجون .. سأكف عن تسمية ما سبق بالسذاجة ولأقول أنّها نوع من البساطة المُختلقة .. البساطة المُختلقة في عالم تحكمه التناقضات الشنيعة والأشياء التي تثير الغثيان .. هكذا ..

سأكف عن كتابة سخافاتي الآن .. وإلى اللقاء في خربشات ليس سخيفة !

هديل خلوف

9-3-2012

06
ديسمبر
11

تلك التفاصيل الصغيرة .. وإشكالية الواقع !


أسدلت الستائر وأشعلت الموسيقا تلك .. اختارت أكثر الأوراق رقةً وقابلية للبوح .. غلّفتها بنثرات عطرية تشبهها .. استلّت القلم .. جلست إلى مكتبتها وأخذت نفساً عميقاً .. اليوم هي ستكف عن أن تكون أُخرى .. ستنزع القناع وتدوسه بقدميها ثم سترميه بعيداً .. اليوم ستسمح لنفسها بأن تكون ساذجة .. مجنونة .. موهومة ربما .. هي فقط تريد لحظة صدق .. هي ستثبت له أنّها أكثر شجاعة .. أكثر شفافية ..

بدأت بمعابثة الورقة قائلةً : ” إلى .. (لن أقول صديقي هذه المرة ).. إلى .. إلى .. إليك .. هكذا حالياً :

 بينما أحاول استحضار الكلمات , تتجسد أمامي أشياءٌ كثيرة من تفاصيلك الصغيرة .. لن أسألك الأسئلة المعتادة عن أحوالك .. لن أبدأ بالحديث عن تلك الأشياء السخيفة التي اعتدت أن أخفي من خلالها اضطراب روحي .. لن أتظاهر .. سأحدثك عن تفاصيلك الصغيرة التي طاردتني فأتعبتني .. عن صوتك الصبياني الساخر .. عن نظرتك الحاسمة التي لطالما حيّرتني .. سأحدثك عن مراقبتي لك وأنت تقطع الشارع .. وأنت تتحدث مع أصدقائك .. وأنت تسوّي خصلات شعرك الثائرة مع الريح .. سأحدثك يا سيدي عن “أنا ” في حضرتك .. عن اضطرابي ,اضطراب عبدٍ ساذج يقف أمام صنمه قريباً جداً .. عن شرودي اللإرادي والإرادي الذي لا يطيب إلا على إيقاعات كلماتك .. سأحدثك عن تلك الابتسامات التي تفلت منّي في الباص وعلى الطريق وأمام صديقاتي كلّما زار طيفك خلاياي العصبية .. عن المحاولات البلهاء لتقليد ملامح وجهك ونبرة صوتك في الحديث كلما انفردت في غرفتي .. سأحدثك عن عذابي الأبدي في جهنم ذكراك .. كلما احترقت صار لي قلبٌ جديد لا يلبث أن يحترق مجدداً ..

كيف أنت الآن ؟ هل لازلت ترفع رأسك لأعلى كلما أردت التأكيد على جملة أثناء الكلام ؟ هل لازلت تكرر المقاطع كثيراً كثيراً كثيراً ؟ هل مازال ذاك السحر الصبياني العابث يتراءى في أحاديثك وملامح وجهك عندما تنفعل فيعيدك مراهقاً في السابعة عشرة ؟ لن أحدثك عن حالي الآن .. فأنا يانسمتي الصيفية الخافتة لا أزال لليوم أستحضرك كلمة كلمة وتفصيلاً تفصيلاً .. أستعرض حركات يديك وحنقك الجميل عندما كنت أقاطعك أثناء الكلام فيطيب لي فأقاطعك أكثر وأكثر .. أستعرض عطرك الذي يأسرني فيك أكثر كلما لامس هوائي المحيط صدفةً .. أستعرض محاولاتك الخبيثة لتبقى قربي في لقائنا الأول .. لتبقى قربي جداً في سيرنا وجلوسنا .. فأضحك .. أنا الآن أضحك ! .. هل تذكر تلك الشجرة ؟ وتلك الغيمات ؟ والهواء الرطب المنعش ؟ هل تذكر كل ذلك ؟ أما أنا فأذكر كل تلك التفاصيل .. أذكر كل وجهٍ مر بنا وكل كرسي .. أذكر حماقتي واضطرابي ومحاولاتنا اليائسة ليخفي كلاً منا خوفه ورهبته ..

 لقد كنت لغزي الخاص , أسطورتي السريّة , معذبي عن طيب خاطر منّي .. شمّاعتي التي أعلق عليها كل كبريائي وطموحاتي وجنوني .. لقد كنت بطلي أيضاً .. إذاً ماذا أقول لك الآن ؟ ماذا أقول ؟ .. سأتجرأ على قولها ..

هذه الرسالة إليك .. حبيبي .. فأنا .. أ ح ب ك ! . ”

بعد أن أنهت الكتابة فردت الورقة وقرأتها ثانيةً .. أُصيبت بالهول لفظاعة ما وجدته .. هذه الرسالة قد عرّت الحقيقة أمامها .. الضوء قوي باهر يكاد أن يعميها .. ربّااااه ما هذا ؟؟ ..

 أمسكتها بكلتا يديها ومزقتها عن بكرة أبيها .. نهشتها.. سحقتها ونثرتها مع العطر في أنحاء الغرفة .. استلّت ورقة من جديد وخطت فيها :

 ” إلى صديقي .. كيف حالك ؟ أتمنى أن تكون بأفضل حال .. أبعث إليك برسالتي هذه لأطمئنك عن كل شيء .. الشمس لا تزال تشرق والعصافير تزقزق صباحاً وكل شيء تمام .. هكذا تجد أن لا شيء قد تغير .. لا شيء .. “

 !

 غمغمت برضا وطوّت الرسالة وأرسلتها .. هكذا لن تتغير نواميس الكون ولن تتعرض للخيبة .. وحبيبها السري سيبقى حبيبها السري الذي تتحدث معه في خيالاتها وتطارد تفاصيله الصغيرة .. إلى متى ؟ لا تعلم حقاً ..

04
ديسمبر
11

حول رواية “1984 ” ..


19841984 by George Orwell
My rating: 2 of 5 stars

لا أعرف لمَ ينعدم حظي مع الروايات العالمية الشهيرة !! أسمع عن رواية فلانية وعن مدى روعة هذه الرواية وأبحث عنها وأشرع بقراءتها ..ثم أتوقف للحظة وأقول : هل .. هل هذه نفس الرواية التي كانوا يتحدثون عنها ؟ .. ثم أعود إلى الصفحة الأولى لأتأكد من عنوانها !
الرواية رائعة بلا شك من حيث المضامين المستترة التي تحتويها .. مخاوف أورويل من سيطرة القوى الكبرى على العالم .. تهميش الحرية الفردية , وأشياء سياسية بعيدة أخرى لاسبيل لي إلى التحدث فيها ..
لكن .. الجو الكئيب المقبض والمبالغة اللامعقولة جعلتني أنفر منها ! .. لم أشعر وأنا أقرأها بأني أقرأ أدباً .. أعرف أن ماأقوله ربما يكون “متطرفاً” و “لا معقولاً ” لكني أقول ما شعرت به بصدق .. لم المس ذلك الدفء والشعاع الذي يرافق عملاً أدبياً .. لقد كانت الرواية عبارة عن تأملات وتكهنات سياسية مصبوبة في إطار رواية .. لايوجد في الرواية تلك المشاعر الإنسانية التي يستمتع القارئ في الإحساس بها .. لقد كانت “باردة “جداً , وهذا جعلني أقرأ الرواية لا أعيشها ..
الترجمة كانت ممتازة برأيي وبالتالي لادخل للترجمة فيما أحسسته .. لقد صورت الرواية عالماً قاتماً بارداً مخيفاً مريعاً .. بشر ليسوا ببشر .. قذارة فكرية واستبداداً مريعاً ذكرني باستبدادات أخرى نعيشها اليوم , لم تدهشني كثيراً الصفحات التي تحدثت عن المعتقلات في أوشيانيا وعن أساليب التعذيب و القمع فيها .. ما يحصل اليوم هنا ربما أفظع وبهذا تتحقق لأورويل نقطة في التبؤ وإن وقع ما تنبأ به في بلد آخر .. هناك الاستبداد نفسه .. الطاعة العمياء ذاتها .. ومبادئ تلقين الطاعة منذ الصغر .. في الرواية هناك “الأخ الكبير ” الذي يراقبنا أينما كنا .. وعلى الواقع يوجد في كل دولة من دول العالم المتخلف نفس ذلك الأخ الكبير الذي يطلب من كل شخص أن يعبده كإله و إلا فالسجون والتعذيب ! عبقريٌ هذا الأورويل !
أما فيما عدا هذا .. لم تجذبني الرواية كثيراً إذ شعرت بكآبة جمة وأنا أقرأها .. كآبة من تلك النوع التي تجثم على روحك وتخنقك طوال اليوم .. لقد وجد الأدب ليمتعنا لا ليحبطنا ! .. لذلك قلت أنني لم أصنفها كأدب..
لفت نظري شيئين : أولاً تكرار العديد من الأسماء اليهودية :أوبراين , غولدشتاين …. لا أعرف ما القصد بذلك .. هل لذلك أبعاداً سياسية مثلاً ؟
ثانياً : لماذا يخلو الأدب البريطاني الحديث من المشاعر الإنسانية التي نجدها في آداب الأمم الأخرى ؟ أنا لم أحكم من هذه الرواية فحسب طبعاً .. لكن إن بحث المرء لوجد أن أدب الروايات البريطانية يضم القصص البوليسية و وقصص الخيال العلمي وقصص المغامرات .. أنا لم أقرأ الأدب البريطاني الحديث كله بالطبع .. لكن .. سبحان الله .. كل رواية لكاتب بريطاني تقع في يدي تكون تحت أحد البنود السابقة !
الرواية تستحق نجمتين : نجمة للخيال أو الفكرة الجديدة التنبؤية .. ونجمة للمضامين المستترة التي تحتويها .. خسرت نجمة آلة الزمن والمكان .. نجمة الإمتاع .. نجمة الإبهار !
كل من قرأ هذه الرواية انبهر بها إلا أنا !
سأقرأ مستقبلاً رواية أخرى له وأرجو ألا تكون بهذا السوء !

هديل خلوف ..
View all my reviews

27
نوفمبر
11

خربشات ناتجة عن ملل !


لأنّي أشعر باليأس جداً .. بالملل جداً .. بالتوجس جداً .. ولأنّ لا شيء لدي لأفعله في هذه اللحظة , قررت أن أكتب .. ليس على دفتر يومياتي الأمين لأني قد مللت التحدث إلى نفسي ومن أجل نفسي .. مللت اجترار الأفكار ذاتها وإعادة تدويرها ذاتياً .. لقد آن للجنون أن يعلن عن نفسه وأخيراً !

وعندما يكون الموضوع “خربشات ” فهذا يعني أنّ هناك جنوناً وقائمة تشغيل عشوائية لأغانيّ وموسيقاي المفضلة تبداً بمقطوعة موسيقية ثابتة دوماً وهي “until the last moment ” ولا أعرف بمَ تنتهي .. يعني أنّ هناك تحرراً من الوعي وترك الموسيقا تنساب عميقاً عميقاً لتسكرني .. لتحرضني على قول كل تلك الأشياء التي أخشى قولها .. لتجعلني أواجه ذاتي لأتفاجأ .. لأن أكون شجاعة بعيداً عن عزلتي الأبدية مع دفاتر يومياتي وخوفي ..

هلّا نبدأ ؟

i’m already there .. take a look around .. i’m the sunshine in your hair .. i’m the shadow on the ground .. i’m the whisper in the wind  .. i’m your imaginary friend  .. and i know .. i’m in your prayers .. oh i’m already there

أغنية جميلة جداً ومؤثرة جداً .. تبدأ بذلك المشهد في غرفة فندق بعيدة .. باردة  .. قاسية .. وهو وحيد بعيد عن أحبائه .. يرفع سمّاعة الهاتف ويتصل بها ليسمعها تقول أنها تحبه .. يرد عليه صوتٌ طفولي .. هو صوت طفله , ويسأله بعفوية الأطفال عن موعد عودته فيجيبه بأول ما يخطر له وهي تلك الكلمات التي كتبتها بالأعلى .. ثم يأتي صوتها لتقول له كم تفتقده وأنها ستكون هناك دوماً في نبضات قلبه .. في ضوء القمر الفضي ..

هذه الفكرة شاعرية جداً .. أن ترى من تحب في كل شيء .. أن تتخيله أمامك طوال اليوم وتحادثه كصديق وهمي .. كل الجمال حولك يصبح هو .. هو أوراق الخريف المتساقطة .. أشعة القمر الفضية .. الظلال المتراقصة .. موسيقا الأشجار والعصافير .. أشعة الشمس التي تتخلل ستارة مخرّمة وتتساقط على أرض الغرفة الباردة .. هو حولك في سمعك وبصرك وحواسك كلها .. وأنت لست وحدك لأنه هو في كل شيء ..

جميلة جداً هذه الأغنية .. لازلت أقول هذا بعد 7 سنوات من سماعها !

والآن مقطوعة فصل الخريف للموسيقار أنتونيو فيفالدي ! من لا يحب هذه المقطوعة ؟ .. هي جزء من معزوفة الفصول الأربعة الشهيرة وأفضل جزء برأيي .. ضربات الكمان الواثقة القوية في البداية تجعل من الصعب علي أن أتخيل خريفاً , لقد اعتدت أن يكون الخريف حزيناً .. منبوذاً .. شاعرياً .. حسّاساً .. أنا أحب الموسيقا لكني لاأعرفها عن قرب بعد لذلك لا أجد الخريف في هذه المقطوعة إلّا في المقطع الأخير عندما تنساب تلك الموسيقا الحزينة الهادئة من خضم الضربات المتلاحقة .. هذه الموسيقا تعذبني جداً .. وكما وُلدت تموت بضربات الكمان الغاضبة ثانيةً .. تختفي وتترك لي تلك الذكرى المضحكة عن معرفتي لهذه المقطوعة لأول مرة عندما كنت في الصف السادس من خلال  المسلسل السوري “الفصول الأربعة ” .. لم أكن أعرف أنها لفيفالدي بالطبع .. ربما كنت أحسب أنّها قد صممت خصيصاً للمسلسل ! :D

بعد موسيقا فيفالدي تأتي أيقونة أخرى من أيقونات الحزن الجميل .. فيروز .. في أعذب أغنياتها وأكثرها حزناً .. في قهوة عالمفرق !

ياورق الأصفر عمنكبر عمنكبر .. طرقات البيوت عبتكبر عبتكبر .. بتخلص الدني ومافي غيرك يا وطني .. بتضلك طفل زغيّر ..

هذه أغنية أخرى من تلك الأغاني التي أشعر فيها بشعور من يفترض أنّه يعيشها .. أنا عندما أسمع هذه الأغنية أشعر حقاً أنّي قد كبرت .. قد شخت .. وأنّي عائدة إلى تلك البقعة التي عشت فيها بعد زمنٍ طوييييييل طويل .. أنّي أرى ذاك المقهى وأسترجع كل تلك الذكريات .. أنّ لا أحد قد عرفني .. أنّي قد أضعت الطريق بسبب كل تلك التغييرات .. أنّ كل شيء قد تغير .. الطرقات والمباني والوجوه وجسدي ذاته .. لكن الذكريات لاتزال فتية هنا .. مستيقظة دوماً و طفلة إلى أبد الآبدين ..

كم جميل أن يعيش الإنسان حياةً أخرى من خلال أغنية !

والآن مع جوش غروبان صاحب أجمل صوت برأيي .. الأغنية she’s out of my life ! .. أعتقد أن الأغنية لمايكل جاكسون أصلاً ! لا أعرف كيف يمكن للمرء أن يسمع هذه الأغنية بصوت مايكل بعد سماعها بصوت جوش .. هذه إهانة للأغنية !

طبعاً الموضوع واضح من عنوان الأغنية .. لكن العبرة هنا :  So I’ve learned that love’s Not Possession
And I’ve learned that love won’t wait
Now I’ve learned that love needs expression
But I learned too late

 ثم لاحظوا هاتين الجملتين  Damned Indecision and cursed pride ..  kept  my love for  her locked deep Inside        

من الواضح أنه كان يعاني من صعوبة بالاعتراف والتعبير .. لماذا هزتني هاتين الجملتين يا ترى ؟؟؟؟

فيروز مجدداً وكيفك إنت .. هذه الأغنية غريبة .. وأقصد بغريبة أنّ لي قصة غريبة معها .. لازلت أذكر ذاك اليوم من أيام البكالوريا عندما اجتمعت أنا وصديقاتي عند إحداهن .. كان الوقت صباحاً وكانت الراديو تصل إلينا من المطبخ .. صدحت هذه الأغنية فقاطعت صديقاتي عما كن يتحدثن عنه وقلت لهن : هذه الأغنية ستحدث معي يوماً ما ! نظرن إلي بعيون دهشى واستيقظت من دهشتي بدوري .. مالذي دفعني لأن أقول هذا ؟ مالذي جعلني أقول هذا أنا الفتاة التي كانت أحاديثهاومشاعرها  وقهوتها الصباحية وأغنيتها المفضلة هي الدراسة والدراسة وحدها ؟؟!! لا أعرف .. هكذا قلت عندما سألنني عن معنى ما قلته .. لماذا اعتقدت وقتها أنّي سأعيش الأغنية يوماً ما ؟ إلى الآن أتساءل .. لماذا قلت هذا يوماً ؟ .. لا تزال صديقاتي يذكرن تلك الجملة حتى البعيدات منهن .. منذ شهرين اتقيت بإحداهن مصادفةً بعد انقطاع تام لأخبارنا لمدة 4 سنوات تقريباً .. لقد قالت لي : أذكرك كلما سمعت أغنية “كيفك إنت ” .. هل عشتها أم لا بعد ؟؟ ثم انفجرت ضاحكة .. لقد عادت وذكرتني .. وأنا لم أنسى أصلاً .. إنّ لهذه الأغنية معنىً خاص دفين لم يكشف عن نفسه بعد .. هل سأعيشها يوماً يا ترى ؟؟؟ من يعلم ؟

أغنية the way u r  .. لقد تحدثت عنها في “خربشة ” سابقة .. :)

الأغنية الأخيرة هي 7 things i hate about u .. أغنية تناسب المراهقين أكثر ..

and the seventh thing i hate the most that u do that u make me LOVE u !  سبب منطقي جداً برأيي !

لقد ولّى الملل وزال الجنون وعاد الواقع .. يستحسن أن أقف عن الكتابة هاهنا .. أمّا عن أحداث هذا اليوم ( الذي لم يكن جيداً في الواقع ) فسأكملها على دفتر يومياتي الورقي الأمين ;)

27-11-2011

 

 

 

03
نوفمبر
11

حول كتاب ” صدام الحضارات ” ..


The Clash of Civilizations and the Remaking of World OrderThe Clash of Civilizations and the Remaking of World Order by Samuel P. Huntington
My rating: 4 of 5 stars

عندما سمعت عنوان الكتاب للمرة الأولى , ظننت أن محتواه تاريخياً .. لم أتصور للحظه أنه كتاب سياسي ( مع أنه كتاب شهير ) .. لا أعرف لمَ ظننته تاريخياً , على أيّة حال هذا ما جعلني أبدأ بقراءته ! عندما بدأت بالقراءة اكتشفت – بذعر – أنّ الكتاب سياسي بامتياز !
مع ذلك وجدت الكتاب ممتعاً , أمّا لماذا لم أكمله فهو لأني وجدت تكراراً في الأفكار عندما وصلت لنهاية ثلثه الثاني , عدا عن أنّي قد فهمت ما يريد الكاتب إيصاله لنا ..
الحقيقة أنّي وجدت الأفكار مذهلة ! .. أنا لا أملك معلومات سياسية وافية , لكني وجدت ما يقوله منطقياً جداً .. ضايقني قليلاً دوران الأفكار حول محور “الغرب ” ومن وجهة نظر الغرب لكن الكاتب ” غربيٌ ” بالنهاية .. ثم من منا ينكر تفوق الغرب وإيديولوجياته ؟
هيا إلى مناقشة بعض من هذه الأفكار :
1- يتحدث الكاتب عن العلاقة بين التحديث والتغريب والصراع فيما بينهما .. ويقول أنّ هناك دولاً ترفض التغريب لكنها ترحب بالتحديث ( كاليابان مثلاً ) وهناك دولٌ ترحب بهما معاً ( كتركيا في عهد كمال أتاتورك ) ودولٌ ترفضهما معاً ( كالصين حسبما أذكر ) , المثير هنا إشارة الكاتب إلى إحدى الدول العربية وهي مصر كدولة ترحب بالتغريب لكنها لا تحرز أي نقطة في سبيل التحديث ! وبعبارتنا الشهيرة هنا ” نأخذ القشور فقط ! ”
أثار استيائي قليلاً جعل التحديث مرادفاً للتغريب في هذا القسم من الكتاب , ثم زال هذا الاستياء مع تقدمي بالقراءة ورؤية كيف أشار الكاتب إلى أن هناك الكثير من الدول التي حافظت على تراثها الحضاري وكانت حديثة .. أي من غير الضروري أن تكون غربياً لكي تكون حديثاً .. هنا تبرز اليابان كحالة متفردة في المحافظة على حضارتها وتراثها دون أي محاولة منها للتغريب لكنها مع ذلك تكاد توازي الغرب من حيث التحديث بل وربما ستتفوق مستقبلاً !
2- قسّم الكاتب الدول إلى دول ممزقة ودول غير ممزقة .. الدول الممزقة هي الدول التي لم تحدد هويتها الثقافية بعد , هل هي دول ذات توجه غربي أم إسلامي أم ذات توجه حضاري آخر مستقل ؟ ضرب لنا مثالاً دولتي روسيا وتركيا .. فتركيا على عهد كمال أتاتورك كانت ذات توجهاً غربياً علمانياً , لقد حوّل أتاتورك تركيا إلى دولة غربية إيديولوجياً متجاهلاً تاريخها الإسلامي وثقافتها الشرق أوسطية , لكن فيا بعد عهد أتاتورك كان هناك صحوة دينية ثقافية وبدأ الإسلام بالظهور كسمة من سمات الثقافة التركية .. هكذا لم تجد تركيا نفسها ضمن الاتحاد الأوربي , وبنفس الوقت لم تحاول هي أن تكون أقرب إلى الدول الإسلامية المحيطة .. هنا نشأ التمزق ..
3- تحدث الكاتب عن قوة كل حضارة بل وتنبأ – عبر دراسات وإحصائيات منطقية – بالدول التي سيكون لها زمام السيطرة في الأعوام المقبلة .. أشار إلى ظهور الإرهاب وارتباطها بالأصولية الإسلامية مستقبلاً ( وهذا ما رأيناه في أحداث أيلول التي وقعت بعد نشر هذا الكتاب بأعوام ! ) كما وأشار إلى بروز الصين واليابان كقطبا سيطرة محتملين مستقبلاً .. الغرب سيتراجع وستبرز قوة الحضارات الأخرى .. قوة الحضارات الآسيوسة اقتصادياً .. والإسلامية بشرياً ! .. يقول الكاتب في هذا الخصوص :
“إن النمو الاقتصادي للصين والمجتمعات الآسيوية الأخرى , يزود حكوماتها بالدوافع والمصادر لكي تكون أكثر قوة في تعاملها مع الدول الأخرى . النمو السكاني في الدول الإسلامية , وبخاصةً زيادة نسبة من هم بين الخامسة عشرة والثانية والعشرين , يقدم مجندين جدد للأصولية والإرهاب والتمرد والهجرة .. النمو الاقتصادي يقوي الحكومات الآسيوية , بينما يهدد النمو الديموغرافي الحكومات الإسلامية والمجتمعات غير الإسلامية ”
لا يخلو هذا الرأي من إجحاف لكنه أيضاً لا يخلو من صحة !
4- ما أعجبني إشارة الكاتب إلى العلاقة بين زيادة نسبة الشباب في بلد ما والاضطرابات التي تحدث فيه .. لقد بيّن الكاتب عبر إحدى الدراست إلى أنه عندما تصل نسبة الشباب في بلد ما إلى أعلى مستوياتها المتوقعة سيحدث هناك ثورة ما أو اضطرابات وتمرد .. هذا ما حدث في الثورات العالمية وهذا ما سيحدث في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين في كل من المغرب ومصر والجزائر و .. سوريا !! بسبب وصول نسبة الأعمار الفتية إلى أعلى مستوياتها ! .. أذهلني هذا الجزء .. لم أفكر هكذا يوماً ..

هناك الكثير من الأفكار التي أود مناقشتها والكثير من النقاط التي وقفت عندها عندما كنت أقرأ .. لكن للأسف وكالعادة .. ما إن أنتهي حتى يتبخر كل شيء .. ! هذا ما أذكره الآن .. بقي أن أقول أن الكتاب من العيار الثقيل و الدسم جداً .. يحتاج إلى عقل “مصحصح ” ووقت فراغ طوييييييل وبال رائق أكثر من اللازم .. هل سأكمله يوماً ؟ لا أدري .. لدي الآن قائمة كبيرة من الكتب التي علي قراءتها .. لقد أنفقت وقتاً أكثر من اللازم في قراءة هذا .. !

هديل خلوف ..

3-11-2011

View all my reviews

29
أكتوبر
11

خربشات في آخر الليل ..


هاقد بدأ الشتاء وبدأت الطقوس المرافقة له .. كما كل سنة , أستقبل الشتاء بشعور غريب خاص .. هو مزيج من الخوف والحزن والشعور المحبب بالوحدة .. نعم .. هذا ما أشعر به في هذه اللحظة بالذات وأنا جالسة في الظلمة تماماً أمام شاشة الحاسوب عالية الإضاءة , هذا الوضع يشكل كارثة بالنسبة للعينين إلّا أنّي أحب الجلوس هكذا .. أحب هذا التناقض مابين الظلمة التامة والضوء المبهر , وقد اعتادت عيناي على هذا على أيّة حال بالإضافة إلى أنّي أخاف حقاً من أن أوقظ أختي بإشعالي للنور فتضيع لحظة الجلوس وحيدة هكذا ..

اليوم سأكتب يوميتي إلكترونياً .. لايوجد لدي ماأفعله في هذه اللحظة كما وأنّي غير قادرة على الكتابة الورقية في الظلمة فلا أملك قوى خارقة على أية حال , لذلك تجدوني أضع السماعات في أذني وأشغّل قائمة الأغاني عشوائياً على مشغل الأغاني .. الجو بارد جداً ( مقارنةً بأسبوع مضى ) وذلك الشعور يلازمني والظلام يحيط بي وبالحاسب .. كما تقول فيروز تماماً : وحدي أنا والحيرة والتعب والغنية ..

تصدح الآن في أذني أغنية just the way you are .. كم أحب هذه الأغنية ! تتحدث عن فتاة غير واثقة بنفسها على مايبدو لكن حبيبها يصر على أنه يحبها مثلما هي .. بابتسامتها التي لا تطيقها هي لكنه يراها جديرة بأن يتوقف العالم كله ليراقبها .. تسأله عما إذا كانت تصفيفة شعرها جميلة فيقول لها : when i c ur face , there’s not a thing i would chang coz ur amazing  just the way u r !

هكذا هو الحب فعلاً .. أن تحب الشخص على “علّاته ” .. أنت تعلم أنه أناني ومتهور وربما أحمق لكنك .. لكنك تحبه كما هو تماماً .. تحب الأنانية والتهور والحمق لأجله .. هذا عن الصفات المعنوية فما بالك بالصفات الشكلية ؟ ستصبح ابتسامته أجمل ابتسامة في الوجود وستراه عندها “إميزينغ ” بالوضع الذي هو عليه .. إيييييييييييه أحسد الفتاة في الأغنية !

مالأغنية التي بعدها ؟؟ وااااااااو .. أغنية “أحبك جداً ” لماجدة الرومي .. هذه الأغنية تثير في نفسي شعور تحدي واثق .. كم جميل أن يكون المرء واثقاً وقوياً هكذا حتى في هزيمته ؟ ” أحبك جداً .. جداً جداً .. وأعرف أنّي تورطت جداً ! وأحرقت خلفي جميع المراكب .. وأعرف أنّي سأهُزم جداً ! ” .. لا لن أتكلم عن الأغنية .. سأكتفي بكلماتها :

“وأعرف أنّي في غابات حبك وحدي أحارب .. وأنّي ككل المجانين حاولت صيد الكواكب .. وأبقى .. وأبقى أحبك رغم يقيني بأن الوصول إليك محال ٌ .. بأن الوصول إليك محال محالٌ محالٌ محااااااااااال ”

أجمل جملة في الأغنية : ” ولكن أحبّك حتى أؤكد ذاتي ” .. أحب هذه الأغنية .. ماذا بعدها ياترى ؟

” كذبك حلو ” لميّادة بسيليس .. أحياناً نحب العيش في كذبة .. أنا نفسي أختلق مئات الأوهام وأبني عليها الكثير .. رغم أنّي أدرك في الكثير من الحالات أنّ ما أعيشه لهو ” كذبة ” لكني أكون سعيدة بذلك حقاً ..  “أحلى شي فيك واللي معلقني فيك إنّو كذبك بيتصدق .. هيك خليك ” .. هذه هي المازوشية النفسية التي تجيدها الإناث .. كم من فتاة تعذبت بسبب كذبة أو وهم ٍكاذب وهي تعلم ذلك بل وتستمتع بذلك ! أفهم هذه الأغنية جيداً ..

هناك الكثير من الضعف في هذه الأغنية وربما الذل أيضاً .. “رجعني وانساني .. مرة ولو ثواني .. بيكفيني ولو ما بدك ياني ! ” يااه .. كم تحبه وتحب العيش في كذباته ! هم يجيدون الكذب جداً على أيه حال ,, ونحن نرحب بهذا ! كم غريبٌ هذا الكون ..

 “ياا أحلى كذبة واخترتا بذاتي ” ..

الآن تفاجئني موسيقا “reflections of passion ”  .. هذه الموسيقا كانت موحية لي جداً في إحدى الأيام لدرجة أنّي أسست في الكلية مجموعة سميتها بهذا الاسم .. ضمت هذه المجموعة صديقاتي المقربات وكل من لديه passion  في هذه الحياة .. لازلنا إلى الآن صديقات نجتمع  كل فترة في مقر معين .. كنا في البدء نحدد نشاطاً أو كتاباً نقرأه ونتناقش حوله .. الآن نكتفي بالثرثرة عن مشاكلنا الحياتية وذلك بعد أن أصبحنا مقربّات أكثر .. كل الأحاديث الآن تدور حول الحب والمستقبل :d

الآن موسيقا in the mourning light  .. من الغريب أنّي عندما سمعتها للمرة الأولى كان الوقت فجراً .. أذكر أنّي كنت واقفة على الشرفة في يوم رمضاني أراقب بزوغ الشمس والسماعات في أذني .. وقتها حلّقت مع المقطوعة مع أسراب الطيور التي تغازل الشمس .. توحدت مع النسائم الفجرية والسماء المضطربة بالغيوم والموسيقا .. كان إحساساً لايوصف .. لم يكن ينقصني سوى بيانو .. ومعرفة جيدة بالعزف طبعاً :d

والآن نبقى مع فيروز .. “أنا لحبيبي وحبيبي إلي ” .. لا أحب هذه الأغنية كثيراً .. ذكروني بأن أحذفها من قائمة أغنياتي المفضلة .. سأسمح لنفسي بأن أغش وأنتقل إلى مابعدها .. ياإلهي لا أستطيع ! لقد استطاب عقلي الأغنية ولا يريد قطعها .. أحس بأن هذه الأغنية مجرد “صف كلام ” .. هناك جملة واحدة جميلة ” بعيونك ربيعي نوّر وحلي ” ..

until the last moment !  ياسلام ! .. إن كان هناك موسيقا تلخص حياتي فهي هذه الموسيقا .. هذه الموسيقا أفهمها جداً .. الموسيقا لغة بحد ذاتها فعلاً .. ياإلهي لاأعرف الكتابة وأنا أستمع إليها .. هذه المقطوعة تربكني جداً .. تتغلغل بي جداً .. تعذبني جداً .. وأنا في كل ذلك أستلذ بسماعها جداً .. هذه الموسيقا نشيدي القومي وفنجان قهوتي صباحاً .. أحبها بالنسخة المعزوفة بعدة آلات وليس البيانو وحدها ( كم هذا غريب مع أنّي أحب البيانو عادةً ) .. ضربات الكمان تمزق روحي فيأتي بعدها مقطع البيانو ليداوي كل شيء .. ربّااه هل من المعقل أن تفعل الموسيقا كل هذا ؟ هل من المعقل أن تعبّر الموسيقا عن حياة بأكملها وشخصية وقصة حب ؟ عبقريٌ ذاك الياني ..

يوجد أكثر من 100 أغنية ولايوجد الكثير من الوقت , لذلك سأكف عن الثرثرة الجنونية هذه وربما أذهب إلى النوم مع يقيني شبه التام من أنّي سأحذف هذه اليومية عندما أستيقظ صباحاً لأني سأراها ضرباً من الحماقة والجنون .. لكنّي سعدت حقاً في هذه الجلسة مع نفسي .. وحدي أنا والحيرة .. والتعب والغنية :)

إلى  لقاء آخر ..

هديل خلوف ..

08
أكتوبر
11

مقعدٌ في حديقة ..


9,00 صباحاً ..
هاقد وصلت إلى الكرسي وأخيراً.. تستطيع الآن الجلوس والتقاط أنفاسها المتعبة .. وضعت الكيس البلاستيكي الذي يحوي كرات الصوف بجانبها وأخرجت بعض الحبوب من الكيس الآخر لترشها على الأرض , هاقد بدأت العصافير بالتجمع حولها .. زقزقة عصافير ونسمات خفيفة وأشعة ضوئية لطيفة تتخلل الشجرة التي تظللها .. كم الحياة جميلة ! .. لم تكن “ست نبيلة ” تتخيل يوماً أن تصبح حياتها هادئة إلى هذا الحد , هي الفتاة المتمردة الثائرة دوماً على المجتمع والأسرة والحياة ذاتها تعيش الآن – في خريف عمرها – حياةً رائقة حقاً .. تتذكر بوضوح كيف خرجت يوماً – هي ابنة الخمسة عشرة ربيعاً – مع الطلاب الجامعيين ينددون بالانفصال .. تتذكر كيف كانت تجاري الأحداث العالمية وتثور مع الهيبيين وتستمع إلى موسيقاهم وهي حبيسة هواء هنا .. تتذكر مغامرة حبها ومحاولتها للهرب وتهديد أخيها بقتلها .. تتذكر كيف رفضت بكل ثقة ذاك الغني المتحذلق الذي اختاره خالها لها ليكون زوجها .. لقد عاشت حياتها كلها كما تريد هي لا كما يريد الآخرون .. تذكرت هذا كله وهي تبدأ أول “غرزة ” في البلوزة الصوفية الخضراء وابتسامة رضا تعلو وجهها ..
كل يوم تستيقظ “ست نبيلة ” في السادسة صباحاً .. تقوم بتنظيف البيت الذي ورثته عن أبيها ثم تعد حاجياتها  لتنطلق إلى تلك الحديقة .. نفس الكرسي كل يوم ونفس كرة الصوف الخضراء تلك , لقد كانت تحب اللون الأخضر لأنه يذكرها بالسلام الذي لطالما كان قضيتها وشغلها الشاغل في مراهقتها .. لا تنسى أيضاً طعام العصافير فهم أصدقاؤها الوحيدون على حد علمها ..
تابعت الحياكة وشعرت بالضيق لأنّ وقت الظهيرة قد اقترب .. هذا يعني أنّ عليها العودة لمسكنها فرأسها العجوز لن يحتمل ضربة شمس .. كما كل يوم .. تبدأ ” ست نبيلة ” بتوضيب الأكياس وتغادر الكرسي متثاقلة في حدود الحادية عشرة تقريباً .. لقد مضت حوالي عشرون سنة على هذا النظام حتى غدا ذاك ناموساً من نواميس الكون , إلا أن اليوم مختلف جداً .. فالست نبيلة لا تعلم أنه اليوم الأخير في حياتها الحافلة .. لن تعلم أنهم لن يكتشفوا جثتها إلا بعد أسابيع بناءً على شكوى من جيرانها .. سيرونها وسط حشد هائل من الأوشحة والبلوزات والقفازات وكل ما يمكن تصنيعه من الصوف .. كلها ذات لون أخضر .. وأغلبها ذات مقاسات طفولية لمختلف الأعمار .. لقد كانت ست نبيلة تصنع على مدار عشرين سنة ألبسة للأسرة التي لم تمتلكها يوماً .. هكذا قالت إحدى جاراتها اللمّاحات ..
هاقد أصبح الكرسي خالياً الآن .. هذا الكرسي الذي عرفها أكثر من أي شيء آخر .. وهو وحده كان يعلم ..
————————–
11,40 ظهراً ..
تدافع الصبية ضاحكين يضرب بعضهم بعضاً مازحاً على الكرسي المتهالك .. كانوا أربعة .. بلباسهم الموحد ذو الألوان الزرقاء والرمادية بدوا متشابهين .. قال أشرسهم ضاحكاً : هع هع هع .. أرأيتم كيف خدعته ؟
قال أصغرهم حجماً : لم تخدعه .. هو كان يريد تلك السجائر على أية حال .. لكزه آخر وقال : خدعه أم لم يخدعه .. أدامه الله هو وسجائره التي تقدم لنا الحرية من تلك المدرسة السخيفة ..
نهض أكثرهم حركة وقال : والآن شباب إلى أين ؟ .. إلى مقهى النت أو نظل ندخن هنا ؟
قال الشرس : إلى المقهى طبعاً , لن نبقى هاهنا كالعجائز .. أليس كذلك يا وردة ؟ .. هع هع هع
ووردة هذا هو اسم التدليل لصديقهم ورد .. لقد كان محط تندرهم دائماً لاسمه الشاعري وملامحه الطفولية .. محط تندرهم ونكاتهم الفظة الخالية من الأدب في الواقع ..
اليوم هو أول يوم يهرب فيها ورد معهم .. اليوم سيصنعوا منه رجلاً كما قالوا له ..
جرّوا حقائبهم وراء ظهورهم ضاحكين مترنحين مخلّفين سحابة أرضية من الغبار لا بأس بها .. سحابة خنقت الكرسي الذي كان وحده من يعلم القصة ..
————————-
1,30 ظهراً ..
جرجرت سلمى طفليها الباكيين وأجلستهما بصرامة على المقعد ..
– ماماااا .. بدي بوشااااار .. إهئ إهئ إهئ
– ماماااا .. احكي لسامي يبطل يشد شعري إهئ إهئ إهئ
– مامااااا .. بدي أروح عالمراجيح …..
– كفىىىىىىىىىىى كفى ! اخرسوا قليلاً اخرسوا عليكم اللعنة !
قالتها بكل صرامة الدنيا ونزقها .. بكل كرهها للدنيا ..
برم الأطفال شفاههم حابسين موجة بكائية وأطرقوا وجوههم إلى الأرض .. جلست سلمى تهز إحدى ساقيها بعصبية وتمسد جبهتا بإحدى يديها .. اليوم ستحسم الأمر .. نعم يجب أن تفعل هذا .. حاجيات الأطفال موضبة كلها .. الجميل في الأمر أنهم لم يكونوا في سن المدرسة بعد وبالتالي لن يكون هناك كتب ودفاتر وغيرها من الكراكيب المعتادة .. إنها محظوظة قليلاً ولا شك ..
هل هي حزينة ؟ نعم .. تكذب إن قالت لا .. لكن أخاها لم يعد يحتمل أكثر من هذا .. لم يعد يحتمل نفقاتهم , وزوجته تتأفف باستمرار .. ثم .. ثم هناك سمير الذي لمّح إلى أخيها بشأنها .. لا أحد يريد زوجة مطلقة مع أطفالها أليس كذلك ؟
بعد قليل سيأتي طليقها السابق كما اعتاد كل شهر ليرى الأطفال في الحديقة .. لكنها في هذه المرة ستسلمهم له إلى الأبد .. هو الوالد وهو من يجب أن ينفق عليهم .. ثم إنّ “الخانم ” زوجته يجب أن تتعذب بصياحهم وبكائهم طوال النهار والليل .. لقد آن لها أن ترى حياتها وأخيراً .. !
ابتعد الأطفال باكين مع أبيهم وهم ينظرون إلى الخلف وصرخاتهم الدامعة تمزق نياط القلوب .. ينظرون إلى أمهم الجالسة على ذاك الكرسي الذي كان هو من يبكي في الواقع .. نهضت “الأم ” بخطوات متعثرة وتركت الكرسي والأطفال والدموع !
—————————
4,15 عصراً..
جلست على حافة المقعد بوضعية من يريد أن يهم واقفاً في أية لحظة .. لقد كانت مضطربة جداً وخائفة .. هاقد أتى وأخيراً .. زفرت بارتياح وابتسمت .. اقترب أكثر لترى وردة حمراء في يده ..
– مساء الورد يا أجمل فتيات العالم ..
ضحكت بخجل .. لقد كانت تحب كلماته .. صوته .. وجوده .. لقد كانت ببساطة تحبه !
لم تكن تتخيل يوماً أنها هي الفتاة العاقلة المتعلمة ستقع في الحب بهذه البساطة .. بحب ذاك الشاب الذي لم يكن عليها أن تحبه لو فكرت بعقل .. لقد كان مراوغاً جداً .. حلو الكلام جداً .. ذئباً جداً .. وهي تعلم ذلك , لكنها ياللغرابة تحبه !
ألهذا يقولون أن النساء بنصف عقل ؟ .. هكذا فكرت يوماً .. هي تعلم أنه وغد وأنه ربما لا يحبها .. هي تعلم أنّ كلماته هذه قد رددها على العشرات غيرها .. هي تعلم أن لقاءهما في الحديقة مبتذلاً جداً وأنه لو كان يحترم نفسه قليلاً أو يحترمها لطلب لقاءها في مطعم مثلاً أو أية كافيه صغيرة  على الأقل .. هي لن تطلب شيئاً أصلاً وهو يعلم ذلك .. لكنها .. لكنها .. لكنها تغفر له كل ذلك عند أول كلمة مديح يلقيها على مسامعها وعند أول نظرة حب تتبدى في عينيه ..
هاقد بدأت الشمس بالمغيب وصار عليها أن تغادر قبل أن يبدأ أبوها بالتساؤل .. قال لها : لحظة .. أريد أن نشهد هذا الغروب الرائع معاً ..
تمهلت وعادت إلى الجلوس .. نظر في عينيها وقال : كم أحب هذا اللون المتوهج الذي تتركه الشمس المحتضرة في عينيك العسليتين .. كم أحب أن ينتهي يومي معك ولك .. أن أنتهي لأجلك .. أن أقع صريعاً كل يوم كالشمس لأذوب وهجاً في عينيك الرائعتين .. كم أحبك يا زهرتي المسائية ..
– وأنا أيضاً .. أحبك .. يا أجمل ماحدث في حياتي ..
لقد كان كلامها صادقاً فعلاً .. لقد كان هو أجمل حدث في حياتها البائسة .. لم يعجب بها أحد قبلاً ولم يتهمها أحدٌ بالجمال يوماً .. لم تكن بالنسبة لأبيها وأخوتها سوى خادمة تعمل بلا أجر أو شكوى .. لقد توفيت أمها مذ كانت طفلة لذا لم تعرف معنى الحنان .. لقد برز وسام فجأة في حياتها وقرر أنه يحبها .. هكذا قال لها .. وهي وجدت فيه الخلاص من كل شيء .. هو يخدعها ؟ حسنٌ .. تعلم كيف تحمي نفسها , لكنها لن تتخلى عنه أبداً .. لقد أحبته .. هذه هي جريرتها الوحيدة ..
بقي وسام جالساً على الكرسي راضياً عن نفسه .. الكرسي الذي كان يراقب كل شيء ويعلم القصة ..
——————————
6,45 مساءً ..
– تعال نجلس قليلاً يا أخي .. إن لم أريح لساني فعلى الأقل أريح جسدي ..
– طيب أمرك .. أرأيت أولئك العاشقين اللذين كانا يجلسان هنا ؟
– تلك الفتاة القبيحة والشاب الوقح ؟! .. مابهما ؟
– لا شيء .. فقط أضحك لحال الدنيا ..
– هذه مقدمة لنقاش فلسفي آخر إذن .. ياأخي أتعبتني ..
– أتعلم أمراً يا مفيد ؟ أشعر – بل أكاد أوقن – بأن البشر أكثر المخلوقات غباءً على وجه الأرض !
– أوف ! ماهذا الرأي الصارم ؟ لماذا ؟ هات ماعندك ..
– لأنهم المخلوقات الوحيدة الذين يعون الموت .. يعون فكرة انعدام الوجود في أية لحظة .. ومع ذلك .. ومع ذلك يتصرفون وكأنهم باقون ..
– اعذرني توفيق لكن هذه الفكرة سخيفة .. الإنسان أكثر المخلوقات مقامرةً لا غباء .. قل هذا .. نحن نقامر بكل شيء يومياً .. نقامر بالحياة مع احتمال الموت بكل لحظة .. نحن نمشي في مسارات معقدة دون أن نعلم حال البطارية التي نمتلكها .. في أية لحظة هناك احتمال أن هوب ! البطارية نفذ شحنها ..
– علينا ألا نمشي إذاً .. يجب ألا نقامر أبداً  .. هذا رأس الحكمة ربما .. لن ننخدع كما الملايين على الأقل ..
– أعتقد أن هذا ما نفعله أنا وأنت .. لهذا لم نتزوج وننجب ..
– أتدري ؟ فكرة أنّي سأموت وتموت معي جيناتي قد بدأت تقلقني إن جئنا للصراحة .. هذه الجينات الثمينة يجب أن يرثها أحد ما ..
– أنا لا أحزن سوى على وسامتي .. ستندثر دون أثر على وجه البسيطة ..
– ما رأيك أن نقامر ونفعلها ؟ .. بالتأكيد هناك غبيتان في مكان ما تنتظراننا بشوق !
– غبيتان ترضيان بالزواج من ستينيين فاشلين عاطلين عن العمل ؟ لابد أن لديك موهبة رائعة بالتفاؤل !
ضحكا حتى ارتج صدراهما بسعال جاف وقاما من على الكرسي ليتابعا جدالهما الذي لا ينتهي .. لقد أمضوا العمر جدالاً ونقاشات .. لقد اخترعا الكثير من النظريات الخاصة بهما .. ربما أتيا إلى العالم الخطأ .. ذاك العالم السريع الذي لا يحتمل إضاعة وقته بنقاشات لا طائل من وراءها .. ربما هكذا كان يفكر الكرسي !
———————————
10,00 ليلاً ..
بعد أن أُطفئت أنوار الحديقة وغادرها زوارها تاركين ورائهم الكثير من قشور المكسرات والبذور حول الكراسي .. حان الوقت لتكون الحديقة مملكته .. جرجر أسماله البالية المهلهلة وهرش رأسه مرتين ثم توسد الكرسي .. لقد كانت أجفانه متثاقلة جداً بعد يوم تشرد آخر .. لا أحد في هذا العالم يحنو عليه كما يفعل هذا الكرسي .. لا أبناؤه ولا زوجته الذين طردوه من المنزل قبل عشرين عاماً .. لقد قالوا أنه مختل .. ” هه ! سأريهم .. سأريييييهآآآآآآه ” .. غلبه النوم .. لقد كان تجسيداً رائعاً لمقطع الأغنية الذي يقول ” هل فرشت العشب ليلاً وتلحفت الفضاء ؟ زاهداً فيما سيأتي .. ناسياً ما قد مضى ” .. هو يفترش الكرسي هنا بالطبع ..
——————————–
وتمضي الأيام .. ويعرف الكرسي الكثير الكثير .. يعرف أن الحياة قاسية جداً على البعض .. أن الحياة في الخارج ليست كما هي حوله مجرد أصوات عصافير ونسمات تحمل روائح شذية .. لقد عرف هذا الكرسي العجوز أسرار الحياة كلها وهو جالسٌ في مكانه .. والزمن يجري ..

هديل خلّوف ..

8-10-2011

07
أكتوبر
11

حول رواية “العطر – قصة قاتل “


Perfume: The Story of a MurdererPerfume: The Story of a Murderer by Patrick Süskind
My rating: 4 of 5 stars

هذه الرواية عبقرية وكابوسية إلى حدٍ مريع , سمعت عنها منذ أسبوع فقط كرواية , لكني قرأت عن هذه القصة عبر تتبعي لفيلم “العطر” الذي قرأت عنه مصادفة منذ سنة تقريباً .. وقتها لفتت نظري قصة الفيلم التي تتحدث عن قاتل مهووس من القرن الثامن عشر في فرنسا والذي كان يتصيد العذراوات الجميلات حصراً بغرض قتلهن ومن ثم الحصول على رائحتهن ليصوغ أجمل عطر في الكون ! الفكرة مقززة طبعاً ومريعة .. هكذا كان رأيي عندما قرأت عن الفيلم .. من يحب هكذا قصة أصلاً ؟ .. منذ أسبوع علمت  أن الفيلم إنما مأخوذ عن رواية شهيرة لكاتب ألماني تحمل ذات الاسم .. الآن وبعدما قرأت الرواية أصبت بالذهول و الإعجاب ! الذهول لإلمام الكاتب بالكثير من الروائح وجهده الكبير في نقلها لنا .. عندما بدأت بقراءة الرواية أصبت بعسر في التخيل نوعاً ما كون الوصف كان مقتصراً – في غالب الرواية – على الروائح ! ففي حين يبادر بقية الكتّاب إلى وصف الطرقات والأشخاص والمشاعر , جاء هذا الكاتب ليصوغ عالماً كاملاً مؤلفاً من الروائح نراه من خلال أنف بطل الرواية “غرينوي ” ذو الشخصية المثيرة للجدل .. هذا المخلوق البشع الذي نبذه العالم وعلى رأسه أمه منذ ولادته و نشأ كمختل عقلياً – هكذا كان يبدو – وذو أنف حاد مكنّه من معرفة الكثير .. أصابني الذهول من قدرة الكاتب على تصوير تلك الشخصية المضطربة التائقة للكمال ( هنا الكمال هي الرائحة العظمى الكاملة ) والتي كانت تبحث عنه من خلال اصطياد أجمل الروائح أو أجمل عبق بالأحرى .. كان تواقاً لامتلاك ذاك العبق بغض النظر إن كان ذلك سيؤدي به إلى ارتكاب أفظع الجرائم .. هو لم يكن لديه الوعي الكافي لإدراك أن ما يقوم به جريمة أصلاً .. لقد توضح ذلك في مشهد الاستجواب عندما سأله المحقق : لماذا قتلت الفتيات ؟ ( خصوصاً مع عدم وجود أي دليل على اغتصابهن أو تعذيبهن ) فقال بكل ببساطة : لأنني أحتاج إليهن !.. القصة كابوسية جداً ومن الطراز الذي يثبت في الذهن طوال العمر .. لا أعتقد أنّي سأنسى هذه الرواية ما حييت ..
بعد انتهائي من القراءة بحثت مجدداً عن ذاك الفيلم وشاهدت صوراً منه ومقتطفات .. الحق أنّ الفيم يبدو موازياً للرواية في روعتها وجنونها .. قال لي ذلك الاختيار الموفق للمثلين وخصوصاً شخصية القاتل ولور .. قال لي ذاك أيضاً معرفتي أن مخرج الفيلم هو المخرج الألماني توم تايكوير الذي شاهدت له فيما مضى فيلم : اركضي لولا اركضي .. هذا المخرج الذي يتحدث عنه النقاد برضا غالباً ..
أما لماذا خسرت الرواية نجمة فهو لأسلوب الكتابة ! لا أعرف إن كان للترجمة دور في ذلك إلا أني وجدت أسلوب الكتابة بسيطاً جداً والتراكيب سهلة ولم أرَ تعبيرات أدبية بليغة ! .. هل هذا لأني قرأت هذه الرواية بعد قراءتي لـ “مدام بوفاري ” ؟ أم أنّ الفكرة كانت فاتنة لدرجة غطت على الأبعاد الأدبية الأخرى ؟ .. النقطة الثانية التي لم تعجبني فهي النهاية .. كان يمكن أن تكون أكثر شاعرية وإيحائية لهذا المسخ الشيطاني ..
نهايةً .. أنصح بالرواية لكل من يحب تلك الأفكار المجنونة الغريبة ويكره النمطية .. 

هديل خلوف ..

7-10-2011

View all my reviews

09
سبتمبر
11

ثرثرة أنثوية ..



في يوم من أيام أيلول وتحت تلك الشجرة التي تثاقلت أوراقها فبدأت بالسقوط اجتمعن .. منى وريم وسهى .. صديقات قديمات هن .. لم يرين بعضهن منذ سنين .. منى مخطوبة وسهى حامل أما ريم فهي كما تركوها منذ أيام الدراسة الثانوية ..
بعد الثرثرة الأنثوية المعتادة حول فلانة وفلان بدأت الصديقات بالسؤال مباشرة عن أحوال بعضهن , فكان هذا الحوار :
– سهى (بخبث ) : إي ياريم .. ألا يوجد أحد هنا أو هناك ؟
– ريم ( مع ضحكة خجولة ) : على حطة إيدك .
– منى : غريب فعلاً أنك لم تُخطبي إلى اليوم .. فأنت جميلة وضمن معايير الأمهات اللواتي يخطبن لأبنائهن .. أنت أجمل مني أعترف ومع ذلك خطبت قبلك !
– سهى ( باستياء ) : ماذا تقصدين بمعايير الأمهات هذه .. ؟ الأم هي التي ستتزوج أم ماذا ؟
– منى : كلنا نعلم أن الأم عندما تريد أن تخطب لابنها فهي تبحث عن فتاة جميلة كشرط أساسي , ومن يقول غير هذا فهو لايرى الواقع .. وأنا بصراحة أريد لريم أن تُخطب مثلي عن طريق الخطبة التي تسمونها تقليدية فهي أكثر ملائمة لنفسية الفتاة وأكثر راحةً لرأسها .
– سهى : ها أنا ذي قد تزوجت عن حب ولا أعتقد أن هناك من تعيش أسعد مني ! .. سأراك بعدما تتزوجين يامنى زواجك التقليدي ذاك .. لا أظنك ستعيشين بخمس سعادتي !
– منى ( وقد نهضت غاضبة ) : ماذا تقصدين !!
– ريم ( مقاطعة وبصوت عالٍ وموجهة الكلام للاثنتين ) : هيييييييييييييه اهدأا أرجوكما .. اسمعا .. أريد من كل واحدة منكما أن تتحدث عن تجربتها ثم أقول لكما وجهة نظري .. مارأيكما ؟
– منى ( بعدما عادت إلى مقعدها وهدأت ) : حسنٌ .. فلتبدأ مدّعية السعادة .
– سهى ( بادئةً الحديث بنظرة فخورة واضحة في عينيها ) : سأتكلم عن البداية .. لا تقاطعاني أرجوكما .. في السنة الثالثة من دراستي الجامعية رأيته .. أو هو رآني أولاً لا أعرف .. كان دائماً هناك .. يقف مع عدد من أصدقائه وعينيه مثبتتين على وجهي .. كنت أتكلم إلى صديقاتي وأضحك وأنفعل ثم ألتفت فجأة لأراه يراقبني .. وسيماً أنيقاً كما يمكن للوسيم والأنيق أن يكون , في البدء كنت أتحول عنه مسرعة ما إن تتلاقى عينانا .. ثم بدأت صديقاتي يلاحظنه وبدأن يتحدثن عن اهتمامه بي .. وهنا يابنات أعترف لقد أصابني الغرور وشعرت بسعادة لا تفوقها سعادة وقتها .. هاأنا ذي من بين جميع الفتيات يختارني أنا .. ينظر إلي أنا .. يبتسم لي أنا .. ومن ؟ شاب وسيم قسيم تلوح علامات الذكاء بوضوح في عينيه .. !
قررت أن أكون جريئة وألا أضيع هذه الفرصة من يدي .. صرت أنظر أنا أيضاً وأبتسم .. مرت عدة أيام كنا نقف أنا وصديقاتي في نفس المكان وهو وأصدقاؤه في مكانهم المعتاد أيضاً .. أنا أتظاهر بالحديث مع صديقاتي وأرمقه وأبتسم .. و هو يفعل ذات الشيء .. كان لابد بعدها من أن يخطو خطوة تجاهي .. ( هنا توقفت سهى قليلاً لتلتقط أنفاسها ثم تابعت بانفعال أكبر ) لازلت أذكر ذاك اليوم .. ذاك اليوم الذي كنت فيه أقف وحيدة تحت المطر بانتظار إحدى صديقاتي .. كان الجو رائعاً وقطرات المطر المجنونة تتساقط بعنف على الشاب الذي يتقدم نحوي فتشكل حوله هالة .. لازلت أذكر ذلك الوشاح الأخضر الذي كان يتطاير مع الهواء و تلك الخصلة المبتلة التي نزلت على وجهه فبدا أكثر وسامة .. تقدم نحوي وقال : “ليش واقفة تحت المطر ؟ شو رأيك ندخل جوا الكلية ؟ ” قال هذا وابتسامة جميلة تعلو وجهه .. وبينما جعلني أتقدمه إلى الداخل كنت أشعر – ولا أعرف كيف – بأن الهالة التي كان يصنعها المطر حوله صارت تحتويني أنا أيضاً .. ( منى مقاطعة باستياء ) : أرجوكِ ادخلي في القصة مباشرةً .. ارحمينا من التفاصيل !
– سهى ( وهي ترمق منى بطرف عينها بحدة ) : المهم .. قال لي أني أعجبه وأنه يريد التعرف أكثر .. قلت له : ماذا تريد أن تعرف ؟ .. قال : كل شيء .. لن أتحدث عن عشرات المكالمات الهاتفية التي دارت بيننا بعدها .. لن أتحدث عن تلك اللقاءات والأحاديث التي اختطفناها من السعادة الكاملة الموجودة في الكون .. لقد كانت اللقاءات كلها محترمة على فكرة وفي أماكن عامة – أقول هذا كيلا تقاطعني منى برأي فذ كما اعتدنا منها – باختصار علمت أني له وأنه لي .. لقد اختارنا الكون لنكون معاً منذ أن كنا ذرات في عالم الأرواح .. ولأني شعرت بذلك صرت أتمنى بشدة أن أكون له إلى الأبد .. أن يمتلكني .. نعم يمتلكني عن طيب خاطر .. بل سأكون سعيدة أيما سعادة لو تلاشيت أمامه تماماً إلى .. إلى شيء طيفي يتحد معه ويصبح جزءاً منه ! صرت بعدها أحدثه عن شعوري هذا وعن أني أريد العيش  معه إلى الأبد .. وصار هو يتحدث جدياً عن الزواج وعن أنه تيقن من أني الإنسانة التي خلقت من أجله .. وقد كان .. تقدم إلى خطبتي .. صحيح أنه كان هناك بعض المعارضة من أمه الشمطاء التي اعتبرتني فتاة لعوب ضحكت على عقل ابنها , صحيح أن أبي اعترض وصار يسأل عن المعرفة التي بيننا .. صحيح وصحيح أن هناك بعض المشاكل الصغيرة التي وقعت والتي فرضها علينا العالم الواقعي المادي المقيت – مشاكل من نوع المهر والمسكن وماإلى هنالك – إلا أني كنت له أخيراً .. أعلنا أمام العالم أجمع أننا زوجاً وزوجة .. زوجان يستطيعان الخروج إلى الطرقات متعانقا الأيدي دونما خوف .. الأجمل من ذلك أن رغبتي في أن أكون جزءاً منه قد بدأت يتحقق .. أنا الآن حاملٌ بمخلوق يختصرني ويختصره في جسدٍ واحد .. ألا يأمل العاشقون دوماً في أن تجتمع أرواحهم في جسد واحد ؟ .. سيخرج إلى هذه الدنيا عما قريب طفل يحمل كروموزوماتي وكروموزماته في جسد واحد .. لقد امتزجت ذراتنا وأرواحنا بمعجزة تتكرر كل يوم في كل أنحاء العالم .. لكنها هنا معجزة تتعلق بعاشقين !

هذه هي قصتي باختصار كيلا تمل منى متلبدة المشاعر !
– منى ( وقد زالت النظرة الحالمة التي ارتسمت على وجهها منذ دقائق وعادت إليها النظرة المتصلبة تلك ) : أما أنا ياريم ففتاة ذكية كما تعلمين .. لست مثل أولئك البلهاوات اللواتي انخدعن بقصص الأفلام والروايات وصدقنها .. لماذا أتينا إلى هذه الحياة ؟ لكي نعمرها ياريم .. لكي ماذا ؟ .. لنعمرها .. وكيف يكون ذلك إذا لم يكن بتكوين أسرة ناجحة وإنجاب الأطفال وتربيتهم على الأخلاق القويمة ؟ أنا لاأؤمن بالتفاهة التي يدعونها حباً .. هناك الإلفة والمودة .. وهي تأتي بعد العيش سوياً .. لقد اشتهرت أسرتي بالأخلاق الحسنة والكرم , وأنا فتاة ذكية مجتهدة عشت طوال حياتي على الطريق المستقيم .. بعد أن تخرجت صرت أحس بأن شيئاً ما ينقصني .. ذلك النصف الآخر الذي يتحدثون عنه دوماً ليس موجوداً .. غريب كيف أني كنت أحس نفسي كلاً متكاملاُ ثم فطنت إلى أني مجرد نصف فقط ! صرت أتوق إلى إيجاد نصفي ذاك وإلى احتضان طفل .. أدركت بعدها أن شعوري هذا طبيعي جداً لفتاة في سني .. وأني قد أصبحت مستعدة تماماً لتكوين أسرة ..في تلك الأثناء زارتنا خالتي وأسرت لأمي بأن جارتها قد رأتني في إحدى الزيارات لها و أني قد دخلت قلبها مباشرة ! .. جميل جداً .. وهي تراني مناسبة لابنها !
في إحدى المساءات كانت الزيارة التي حددت مصيري وملامح أطفالي المستقبليين .. لقد كان خجولاً وأنا أيضاً فلم نتحدث كثيراً .. لكننا في الزيارات اللاحقة صرنا أكثر انطلاقاً وخضنا بعض الأحاديث العميقة .. لقد أعجبته وأعجبني والأهم من ذلك اتفق أهلنا على كل شيء وأدركوا أننا مناسبان جداً لبعضنا ولهم ! .. ( توقفت هنا منى عن الحديث ورفعت يدها اليمنى التي تحمل خاتماً براقاً )  انظرا .. هذا الخاتم سينتقل إلى اليد الأخرى بعد شهر فقط .. أنا سعيدة جداً إلى الآن وسأكون دائماً إن شاء الله .. فهو خلوق ومهذب جداً .. أرتاح إليه وأوقن بأنه الزوج المثالي لي .. سنكون أسرة سعيدة ناجحة لاشك في هذا !
( توقفت منى عن الحديث و اتجهت عيون مهى وسهى نحو ريم )
– ريم (مترددة في البدء ) : أنا .. أنا يارفاق أعيش معضلة ملحمية .. على ما يبدو أني لن أجد ذلك النصف الذي تحدثتما عنه .. أنا ياسهى لست مثلك أقبل أن تبدأ قصة حب حياتي من نظرة .. ولست مثلك يامنى أتزوج لمجرد الزواج وبناء أسرة ناجحة !
أنا ياصديقاتي خيالية جداً .. حالمة جداً .. مرهفة جداً .. أؤمن بالحب جداً .. ذلك الحب الخالد الشفاف الذي لايتردى إلى سخافات النظرات الأولى والمعاملات المادية المقيتة .. لقد نظر إلي عشرات الشبان تلك النظرات المتمعنة وأنا أجلس إلى صديقاتي في مقاصف الكلية .. كانوا ينظرون وينتظرون مني أن أنظر أنا أيضاً لتتطور القصة .. لكن .. لكن .. لا أدري لمَ كنت أشيح بوجهي بازدراء داخلي .. تصوروا لقد تطاول أحدهم مرة – عندما رآني أشيح بوجهي باستمرار – وسمح لنفسه بأن يحتل مقعداً إلى جانبي وقال لي صراحة أنه يريد أن يتعرف ! لا أدري كيف تحاملت على نفسي ومنعتها من توجيه لكمة إلى أسنانه .. هذا الأحمق يريد أن يعيش قصة حب ملتهبة مع فتاة أعجبه شكلها الخارجي وجاء بكل وقاحة الدنيا ليقول أن غرضه أن يتعرف !
(سهى مقاطعة ) : هيه هيه انتظري .. لا تكوني معقدة أرجوكِ .. الفتى يريد أن يتعرف إليك مالخطيئة هنا ؟ إن توافقتما كان بها .. وإن لم يكن يذهب كلٌ في سبيله .. لا تلعبي دور القديسة أرجوكِ ..
– ريم : يبدو أنكِ لم تفهمي مقصدي .. أنا لن ألعب لعبة المواعدة هاهنا .. لن ألتقي العشرات في طريق البحث عن ذلك النصف .. وماذا إن لم يكن شاب المقصف ذاك هو النصف المنشود ؟ حتى لو كان .. لا أريد لقصة حبي الوحيدة أن تبدأ هكذا .. أيُ ابتذال !
– منى : هاااا .. أنتِ عيني .. يبقى أمامك خطبة الأهل !
– ريم : لا يا منى .. أنا لن أتزوج لمجرد أني يجب أن أتزوج كملايين الفتيات .. أريد أن أتزوج لأكون مع ذلك الإنسان .. ذلك الإنسان الذي اختاره عقلي وقلبي واختارني عقله وقلبه .. ذلك الإنسان الذي أحببته وأحببني وعلمنا كلانا هذه الحقيقة دون أن نضطر لاعترافات الحب السخيفة .. دون أن نضطر إلى سرد المئات من العبارات المنمقة على غرار : ما بحسن أعيش من دونك .. وبفديك بروحي … إلخ  كل عبارات الحب أجدها مبتذلة ومفتعلة !.. أريد أن أعيش قصة حب مجنونة .. متطرفة .. غريبة .. لا تنتمي إلى هذا العالم ..  تتوج بالزواج الذي سيستمر إلى الأبد .. أريد أن يكون اللقاء الأول بيننا ليس لأنه يريد أن يتعرف أو أريد أن أتعرف .. وإنما لنعترف بصمت بالحقيقة الواقعة داخلنا .. بالحقيقة التي كانت مغيبة عن أعيننا عندما كنا أمام أعين البعض كل الوقت .. أريد أن أكتشف حبه ببطء في داخلي بعد أن كنت أعتبره عدواً أو حتى مجرد زميل أو صديق !
لن أتزوج أبداً بتلك الطريقة السخيفة التي يتعرف اثنان إلى بعضهما فيها لغرض الزواج .. لا أعرف لم أشعر أنها تشبه اجتماعات الحيوانات في موسم التكاثر ! الفوز للأقوى .. للأجمل .. ( طقطقت هنا منى بشفتيها معترضة ) .. لا أريد أن أكون مجرد آلة لإنجاب أطفال صالحين ! لا أريد أن أكون تلك الفتاة المتبخترة البلهاء التي تفاخر بكمية الذهب التي ساوم أهلها عليها .. أيّةُ إهانة !
هل أنا مجنونة ؟ ربما .. هل أنا غريبة الأطوار ؟ ربما .. ما رأيكما ؟
(هنا مطمطت الصديقتان شفتيهما باستياء ) قالت سهى : أخشى يا صديقتي أنك بتناحة عقلك هذا ستضيعين نصفك إلى الأبد .. سيكون نصفك إلى جانبك يبتسم لك وأنت ستشيحين بوجهك بكل غباء الدنيا وتعيشين إلى الأبد كنصف .. رأيي أنك بلهاء حقيقية !
منى ( متفقة مع سهى في ملامح وجهها) : أخشى يا صديقتي أن تصلي لسن الأربعين وحيدة .. بلا طفل أو رجل يساندك ويواجه الحياة معك .. عندها ستعضين شفتك حسرة وندماً وتتمنين لو أنك قبلتي بأول حيوان يطرق بابك ! قال حيوانات في موسم تكاثر قال !

نظرت ريم إلى الفضاء أمامها بصمت ثم نزعت جاكيتها من مسند الكرسي وودعت الصديقات وتابعت المشي وحيدة تسحق الأوراق الصفراء بأقدامها .. هي مثل الخريف .. وحيدة باردة حزينة .. ستظل خريفاً ما حيت .. فلا يوجد من يفهم الخريف في هذه الدنيا سوى الأوراق المتساقطة المنكودة ! لا أحد يعيش في عالمها الخيالي ذاك .. لن يفهمه أحد ولن يفهمها ..

9-9-2011
هديل خلوف ..

03
سبتمبر
11

ذلك الطفل الصغير ..


كل صباح يستيقظ الحاج عبد الرحمن باكراً قبل ابنه , يتوجه إلى الصيدلية التابعة لابنه ليفتحها و ينتظره هناك .. لا يدري متى بدأوا ينادونه بالحاج مع أنه لم يزر بيت الله ولا مرة في حياته .. لكن من يمتلك كرشاً ضخمةً ككرشه بالإضافة إلى صلعة كبيرة لامعة تتوسط بعض الشعيرات الخشنة البيضاء على جانبي رأسه لابد أن ينادوه بالحاج .. هكذا هو العرف السائد على أية حال ..
– يسعد صباحك حجي ..
يرد على هذه التحية 4-5 مرات في طريقه إلى الصيدلية .. كم من مرة أسرَّ في نفسه الرغبة بسماعهم ينادوه بالدكتور كما ينادون ابنه .. لكنه لايلبث أن يتحسس كرشه الضخمة و الشعيرات على جانب رأسه فيدرك أن الأنسب هو ما ينادونه به , هذا عدا عن أنه لا يحمل شهادة في الصيدلة أو “الدكترة ” أصلاً !
عاش الحاج عبد الرحمن طوال حياته كموظف حكومي اعتيادي , خط سير حياته مضى كما يمضي خيط سير حياة الملايين هنا , الحصول على شهادة البكالوريا .. الخدمة العسكرية .. التعيين في الدولة ( وقد كان ممكناً لمن يحمل شهادة بكالوريا أن يتعينوا في وظيفة محترمة في ذلك الوقت ) .. ثم البحث عن “بنت الحلال” التي سيعيش معها طوال عمره والتي ستربي أبنائه وتنكد عليه من حين لآخر .. عندما ينظر الحاج عبد الرحمن إلى شريط حياته يبتسم ويغمغم راضياً , فهو عاش حياته بأكملها محترماً وقد استطاع أن يورث عبقريته الضائعة إلى أولاده الثلاثة فخرجوا أطباء و صيادلة .. بعد تقاعده يمضي إلى صيدلية ابنه الأصغر كل يوم باكراً ويرتب الأدوية من جديد ريثما يستيقظ ابنه عند الظهيرة ويرى كل شيء جاهزاً .. “جيل كسول و لا يتحمل مسؤولية ! ” هكذا كان يتردد في ذهنه كل يوم راثياً لنفسه لأنه يقدم هذه التضحيات في الاستيقاظ و إدارة عمل ابنه بكامله مع أنه لم يُطلب منه ذلك أصلاً .. ! عندما يتذمر الولد من ذلك أمام أمه كانت تقول له بلهجة العارفين : “لك ماما خليه بيتسلى .. أحسن ما يقعد بوشنا كل يوم ! ..أبوك صار رجال كبير بدك تتحمل نزقو” .. إلا أن الحاج لا يبقى دائماً في الصيدلية , لقد كان يذهب أحياناً إلى ابنته المتزوجة أو إلى المقهى ليلعب النرد مع أصدقائه المتقاعدين .. إلا أنه في هذه الأيام بالذات صارت زياراته إلى ابنته تزداد بشكل ملحوظ .. لقد صار لديه حفيد صغير يكبر كل يوم .. ابنته الطبيبة قد أوقفت نشاطاتها في مهنة الطب عندما حملت بـ يزن وصارت تلازم البيت مكرسةً حياتها له , وقد قرر الحاج عبد الرحمن أن يكون له يد في هذا الموضوع .. هو لا يحب الأطفال الصغار ألبتة .. بشكل ما يعتبرهم مسوخ صغيرة مقززة لن تصبح بشراً إلا عندما تبدأ المشي والاعتماد على نفسها في قضاء حاجاتها الضرورية .. لكنه مع ذلك كان يذهب إلى بيت مها ويلاعب الطفل ويغتنم بعض الأوقات النادرة ليذهب إلى المطبخ .. و .. يأكل سيريلاك !
بدأ ولع الحاج بالسيريلاك “أكل الأطفال الشهير ” منذ زمن بعيد .. منذ الزمن الذي كان يسمى فيه “تاميلاك ” .. عندما وُلدت مها بشكل خاص .. كانت زوجته تعد هذا الطعام لابنته وكان يتذوقه أحياناً ليتأكد من درجة حرارته , ومنذ ذلك الحين شعر الحاج بأنه قد عثر على ألذ طعام ممكن أن يتذوقه المرء ! كانت فترة طفولة أولاده فترة ذهبية بالنسبة له .. فكم من مرة تبرع هو بإعداد طعام الأطفال , وقد كانت زوجته تشعر بالفخر لذلك وتتباهى أمام جاراتها بأن زوجها “مودرن ” وعصري ويصر على مساعدتها بإطعام الأطفال , وكم من مرة غافل الزوجة – عندما لا يكون هناك داعٍ لإعداد وجبة – ليذهب إلى المطبخ “ليسف ” السيريلاك “سفّاً ” ! .. كم شعر بالأسى عندما بدأ أطفاله بالنمو و الاستغناء عن هذا الطعام الرائع .. “لماذا لا يبقَ المرء طفلاً ؟! ” هكذا كان يردد لنفسه حانقاً ..
هاقد أنجبت ابنته مسخاً صغيراً وعليها إطعامه السيريلاك .. وأخيراً ! .. بعد سنوات وسنوات من الحرمان منه وبعد آلاف المرات التي كان يتأمل العلبة الذهبية الموضوعة على رفوف الصيدلية بأسى هاقد حان الوقت ليتذوق هذا الطعام مجدداً ! أحياناً كان يشعر بالحنق لأنه لا يملك استقلاليته وحريته الخاصة .. إنه لا يجرؤ على الدخول إلى البيت حاملاً علبته السيريلاك الخاصة أو حتى عمل السيريلاك في الوظيفة.. كلهم سيسخرون منه واصفينه بالعجوز غريب الأطوار , هذا ما كان يمنعه من أكل طعامه المفضل .. أما والآن هاقد أصبح يزور ابنته بشكل شبه يومي مستغلاً غياب “صهره ” طوال اليوم و متسللاً إلى المطبخ لسف السيريلاك إذا كان الوحش الصغير نائماً والأم مشغولة ..
لقد عاش الحاج عبد الرحمن حياةً اعتيادية كما الملايين وسينهيها بنفس الطريقة .. جلطة في القلب جعلته يلازم المشفى ويقع في غيببوبة لا بأس بها .. كانوا جميعاً يلتفون حوله وأعينهم مغرورقة بالدموع خائفين من تلك اللحظة التي يعلن فيها جهاز القلب صفارته الأخيرة , حتى ابنه الذي يعيش في الولايات المتحدة قد جاء ليودع العجوز .. لقد طالت غيبوبته قليلاً..
في إحدى الأيام , فتح العجوز عينيه أخيراً ليرى عشرات الوجوه حوله .. بنته وصهره وابنيه وأصدقاء المقهى وزوجته بالطبع .. نظر إليهم بعين الرضا إذ رآهم يلازمونه ثم غمغم بصوت متحشرج بشيء ما .. هرعت زوجته لتسمع ما يقول ثم التفتت إليهم لتقول : “يريد صحن سيريلاك ! ” .. نظر الجميع إلى بعضهم نظرات تقول ” الرجل -العجوز – قد -بدأ -بالتخريف ” .. وقد كان له ما طلب على أية حال ..
في مجلس العزاء الخاص به كانت زوجته تستعرض محاسن الفقيد وكيف أنه كان يساعدها في إطعام الأطفال .. اغرورقت عينا مها بالدموع مجدداً وتذكرت كيف كان يغافلها إلى المطبخ ليأكل من طعام الأطفال .. إنها تعلم ذلك ومن المؤكد أن أمها أيضاً تعلم لكنها لا تتكلم .. لقد كان أبيها يحمل طفلاً جائعاً على الدوام بداخله .. هي تحمل طفلة بداخلها أيضاً .. وزوجها .. والبقال .. وأخوها الصيدلاني .. لكن مشكلة هؤلاء الأطفال أنهم مقموعون دائماً .. أباها فقط استطاع تحرير ذلك الطفل الشقي الذي يغافل الآخرين ويسرق السيريلاك من المطبخ .. اغرورقت عيناها مجدداً وابتسمت ..

3-9-2011
هديل خلوف

18
أوت
11

نسمات الفجر الوليدة ..


اليومية الـ .. الخمسون بعد الألف ربما .. إلى من سأكتب هذه المرة ؟ حسنٌ ..

إلى نسمات الفجر الوليدة ..

لا تتفاجئي إذّ أكتب إليكِ أرجوكِ , فأنا قد تعبت من الكتابة إليهم جميعاً , أختارك أنتِ لأنك تجلسين معي الآن .. في هذه اللحظة .. تقلبين أوراق الدفتر و تلامسين وجهي فأشعر أنك تقرأيني و تقرأين الدفتر ..

 أنا – وكما ترين – متعبة .. أنا لا أتحدث عن النعاس طبعاً .. أتحدث عن ذلك الحزن الذي يركب الروح فيثقلها , و يجعلها أكثر شفافيةً في الوقت ذاته فتشعر بمئات الأرواح المتآلفة ..

خبريني أيتها النسمات , كيف حاله و حالها و حالهم ؟ كيف حال الطرقات البعيدة ؟ كيف هي مآذن الجوامع ؟ كيف هي الأيادي التي تلامس القضبان ؟

 هاأنتِ تظهرين لطفك ثانية بمرورك على وجنتي لتمسحي دموعي ..

 أيتها النسمات الوليدة , أنا أحسدك ! .. أحسدك لأنك حرة يا عزيزتي ..حرة كما يمكن للحرية أن تكون .. واثقة جريئة تستطيعين زيارتهم كل مطلع صبح دون أن يمنعنك سجّان .. تمسحين على رؤوسهم المتعبة .. تعطيهم الأمل بيوم جديد وغدٍ أفضل .. ربما ..

هل لي أن أئتمنك على شيء ؟ اقتربي ثانية لتسمعي .. أرسلي إليهم كل تلك الروائح الشذية .. روائح الندى و الحجر المبلول و خبز الأفران .. أرسلي إليهم كل تلك الأشياء المجنونة التي أكتبها .. كل الاعتذارات والاعترافات التي لم تصلهم من قبل .. أرسلي إليهم رائحة الياسمين و النرجس .. رائحة الحرية ذاتها ! .. مالك ؟ لم تضحكين ؟ .. آآآ .. يالي من حمقاء .. هم عرفوا الحرية أكثر من أي شيء آخر .. لا بأس .. أوصلي إليهم أمنياتي الطيبة إذن ..

 أيتها النسمات الفجرية لم زالت برودتك ؟ .. أرجوك لا ترحلي الآن .. لا تضيعي في الصخب .. لا تتلوثي .. لم أقل لك كل شيء بعد ..

 رافقتك السلامة .. شدي على الأيادي التي تلامس القضبان ..

18-8-2011

هديل خلّوف

22
جويلية
11

قلبي لا يحتمل و قلبك لا يستحق !


سألوها كثيراً عن نحولها .. عن شحوبها .. عن شرودها الدائم .. ” هل هو الحب أيتها الصغيرة ؟ ” يقولون لها بخبث ..
لقد كانت روان في طفولتها تصر على أنها مريضة بالسرطان و أن أهلها يخفون عنها ذلك .. كانت تضرب الأرض بقدميها و تصيح باكية ” سأموت .. أعرف ذلك .. أستطيع رؤية عروقي ! “
فتقول لها أمها بلهجة من اعتادت موجات الجنون تلك ” إنما تشف عروقك لرقة جلدك و بياضه أيتها الغبية ” .. متى عرفت روان سر نحافتها ؟ ربما عندما بكت بعد انتهاء المقطوعة الموسيقية تلك , تلك التي عزفها أستاذ الموسيقا على البيانو في حصة الموسيقا .. لقد انخرطت بالبكاء دون أن تفهم هي سبب ذلك حتى .. لقد اجتاحت روحها موجة ألم رهيبة جعلتها تبكي .. وقتها نظر إليها التلاميذ بعيون متسعة و قال لها الأستاذ : رباااه .. إن روحك لتمتلك تلك الجذوة .. لقد قُدر لك أن تحترقي عندما تتذوقين الجمال !
وصفوها كثيراً بالحساسية و الانطوائية و الموهبة .. لكن ميزة الاحتراق هذه كانت جديدة عليها .. لقد كانت تقدر الحزن بشكل خاص و تجد لذة ما في الألم !
روان اليوم تعيش قصة حبها الأول \ الأخير ربما .. ذلك الحب البريء غير المعلن .. و الذي بقي غير معلناً حتى بعد انتهاءه ! .. كان فادي شاباً حذقاً حقاً ,  و لأنه كان حذقاً كان يجيد فنون التمثيل و يعرف كيف يجعل الفتاة تقع في هواه دون أن يتفوه هو بشيء عن الحب , قابلها في إحدى دروس البيانو و هو يدّعي التأثر بما عزفته .. حكى لها كثيراً جداً عن قصص حبه السابقة و عن “كيف تمزقت روحه مع فتيات لا يعرفن شيئاً عن معنى العواطف ” .. حكى لها أدق التفاصيل بدعوى أنه يرتاح إليها و قد كان هذا حقيقياً إذ وجد فيها مالم يجده في الفتيات الأخريات فعلاً من إنصات لكل كلمة يقولها و كأنه المعلم الأعظم ! .. هذا مهد لصداقة استثنائية بين فادي و روان .. صداقة عمادها كلام فادي المتكرر عن نفسه و صمت روان وكبريائها , و لأنها ممن كانوا يرون الجمال في كل شيء .. أتاح إليها القرب من فادي الإحساس بروحه .. لطالما آمنت روان بأن لكل إنسان مهما كان أفّاقاً شريراً هالة روحية دافئة لا يستشعرها المرء إلا اذا اقترب منها و فهمها .. بعد حوالي سنتين من صداقة درس البيانو ذاك .. صار البكاء لدى روان عادة يومية , كلما سمعت مقطوعة موسيقية .. كلما راقبت أوراق الخريف تتطاير مع نسمات الهواء باستاتيكية ما قبل هطول المطر .. كلما لامس الرذاذ وجهها .. كلما .. كلما عبقت في الأجواء روائح الدرّاق !
قالت لها صديقتها نجوى إنه الحب .. أجابتها روان بأن كل تلك المشاعر ليست بجديدة عليها , الأمر هو زيادة حدتها و تكرارها .. فتجيبها نجوى بأنها يجب أن تخبر فادي بحبها له ..
و كيف تخبره ؟ هو الذي لطالما مدح ذكاءها و سداد رأيها و احتمى بمساندتها عندما تقسو الحياة على نفسيته الهشة لكنه لم يشر و لو لمرة إلى عاطفة خاصة يحملها لها ؟ كيف تئد كبريائها العاق هذا ؟ كيف تزيح من بالها صورة فادي الدنجوان الذي يجعل الفتيات يقعن في حبه و يتعلقن به عبر فنون نفسية يجيدها هو الذي لا يمكن أن يشعر بالحب يوماً ؟ لا يا نجوى .. اعذريني .. لن أكون تلك الفتاة البلهاء العاشرة على لائحته ! وداعاً فادي !
لأن حبها لفادي قد امتزج بالهواء ذاته و برائحة الأزهار و المطر .. لأن حبها غير أرضي زيادة عن اللزوم و غير جديرٍ بمخلوق أرضي .. ولأن روحها تحترق في كل دقيقة و ثانية .. ولأن كبريائها قد فاق الكبرياء نفسه .. و لأن فادي لا يعبأ بالسؤال عن حالها حتى و لا يجيد سوى الكلام عن همومه الخاصة .. و لأنها تحترق و تحترق و تنحف و تنحف .. قررت أن توزع الحب بداخلها على براعم الأزهار و القطط الوليدة و النسمات العطرة التي تأتي من أماكن مجهولة .. قررت أن توزعه على كل لحن و على كل ضوء يتجلى في الظلمات .. على الاستاتيكية التي تسبق المطر .. على أوراق الخريف المتخشبة .. على الطرقات المبللة بماء المطر .. على خيوط الشمس الأولى .. على أشعة القمر التي تلامس وجهها ليلاً .. على العشبات الندية التي تشق الأرض متطلعة .. على الموسيقا الكونية التي باتت تسمعها و التي علت لتغطي على أصوات البيانو خاصتها .. على الكون ذاته .. على مُوجد الكون و الشجر و المطر و العصافير و القطط الوليدة و الضوء و النسمات !
تقول صديقاتها : روان قد أصبحت متصوفة .. و تقول روان بأعين دامعة : أنا فقط لا أستطيع تحمل كل ذلك الجمال ..

فجر 22-7-2011

هديل خلوف

18
جوان
11

زهرة الإيديلفايس – Edelweiss flower


منذ أيام مضت , لم تكن تعرف ما هي الإيديلفايس .. كانت زهرة مثلها كمثل زهرة البانسيه أو زهرة البلوميرا .. من يعرف أي شيء عن هذه الزهور الغامضة ؟

منذ أيام .. لم تكن لتتخيل أن الإيديلفايس ستزورها شخصياً في “نص بيتها ” قاطعةً أميالاً و مسافات من السفوح الثلجية و أمواجاً من الشوق !

في يومٍ خريفي جاءت .. مغلفة منمنمة تلفظ أنفاسها الأخيرة في مظروفٍ بريدي صغير يحمل ملصق خاص بإحدى بلاد الشمال , لقد كانت منه !

أمسكتها بكلتا يديها و قربتها من وجهها لتتنفسها بعمق , لتسافر إلى هناك , إلى حيث كانت تغفو هذه الغريبة .. وضعتها في علبة زجاجية على حافة النافذة , و ابتسمت لمنظرها الغريب .. عادت إلى المظروف لتقرأ كلماته مرةً ثانية ..

” لا توجد هذه الزهرة إلا على قمم الجبال , لذلك اخترتها لأهديها لكِ إذ بدوت كفرسان القصص الخيالية و انا أقطفها لك ..

كانت حزينة جداً تستاء إذا ما سلطت الشمس ضوءها السمج عليها .. هشة زجاجية حتى خفت من أن تتحطم بين أصابعي .. همست ببضع كلمات لها و أوصيتها بأن توصلها لكِ .. فهل تسلّمتِ الرسالة ؟

نادرةٌ كالإيديلفايس .. وحيدةٌ مثلها هي أنتِ .. “

هديل خلوف

17 – 6 -2011

18
أفريل
11

أم أمينة !


 

من الغريب كيف أن مكالمة هاتفية قد تجعلك تتذكر حياة بأكملها .. أحاديث و ضحكات و أشخاص قد مروا في حياتك كنسمة صيفية .. استمتعت بها للحظات ثم لم تعد تذكر أثرها المحبب الذي تركته ..

كانت أم أمينة هي نسمتي الصيفية .. لا تعرفون أم أمينة ؟! .. لقد فاتكم الكثير إذن !

أم أمينة هي مدبرة المنزل التي تأتي لمساعدة أمي بأعمال “التعزيل إياها ” .. التعزيل قبل رمضان و قبل العيد و قبل العطلة الصيفية و بعد انتهاء العطلة .. إلخ .. كانت من أولئك الأشخاص الذين يرغمونك على ملاحظتهم .. ربما يعود الأمر إلى هالات معينة أو ما يسمى بالكاريزما و ما إلى هنالك .. ما أعرفه أن أم أمينة لم تكن كغيرها من مدبرات المنازل اللواتي يضعن المنديل الملون على رؤوسهن و يبدأن بالتنظيف و علامات الأسى و التعذيب تملأ وجوههن .. لا .. لم تكن هكذا .. كانت امرأة فذة حقاً بعلامات التصميم و القسوة الطيبة البادية على وجهها , و يديها المعروقتين القويتين الجديرتين بأيدي رجل لا امرأة .. متى كان أول حديث لي معها ؟ نعم .. ربما عندما زلت قدمها عن السلم و كادت أن تدق عنقها لكنها سيطرت على الأمر .. لقد صرخت بأعلى صوتها و هي تلوح بقبضتها صاعدةً ثانية : الجاذبية المقيتة ! لا يوجد ألعن و لا أكثر ظلماً و قيداً مما يسمونها الجاذبية !

أذكر وقتها أني رفعت عيني مندهشة و قلت لها : الجاذبية هي من يجعل أقدامنا ثابتة على الأرض .. و يمنعنا من الطيران كالفوتبول ! .. لوحت بيدها بعصبية و هي تنظف بيدها الأخرى : يا ابنتي أنت لا تملكين سعة التفكير التي أمتلكها و بالتالي لن تفهمي ما أعنيه .. ! و هنا بدأ الشريان الصدغي عندي ينبض بسرعة و إحدى حاجبي قد بدأ بالارتفاع : عفواً ؟ حضرتك حفيدة أينشتاين أم ماذا ؟

– أينشتاين أحمق .. لقد صاغ حقيقة بديهية على شكل نظرية فهتف له الجميع .. أنا أتحدث عن شكل الكون الذي صمم لنكون مشدودين دوماً .. هذا هو السجن الحق !

و هنا فطنت إلى حقيقة أن أم أمينة هذه تعلم شيئاً عن أينشتاين و نظريته .. و بالتالي هي مختلفة نوعاً ما ..

تتالت أحاديثنا أكثر من مرة .. و في كل مرة كانت تكشف لي جزءاً من آرائها الغريبة و المضحكة في آن .. ما كان يجذبني إلى محادثتها ليس أرائها فحسب , بل طريقتها الكاريكاتورية المحببة في قولها و كأنها حقائق منزلة لأنها من فم “أم أمينة” ! .. سألتها مرة : كيفا بنتك أمينة ؟ نظرت لي بعينين ناريتين و قالت : أعوذ بالله من الحمق ! هل قالوا لك أن لدي بنتاً اسمها أمينة ؟! ..

ضحكتُ – وكنت قد اعتدت على أسلوبها الفظ في الكلام – و أجبتها : اسمك قال لي !

جففت يديها ووضعت إحداها على كتفي كمن يعظني و قالت : يا بنتي اسمعي هذه الكلمة مني و لا تنسيها : لقبي هذا هو حصانة اجتماعية من القيل و القال .. وسماً يجب أن تحمله كل من في عمري .. إن من وصلت إلى الخمسين و ليست أم فلان أو أم علتان لا تختلف كثيراً عن المخلوقات الفضائية التي يسيل سائل أخضر من أشداقها .. هكذا أنا أم أمينة و بالتالي لست مخلوقاً فضائياً ..

 – لا .. لا أعتقد ان الوضع بهذا السوء , فما ذنب التي لا تتزوج أو التي لا تنجب ؟ هذه المرأة لا ذنب لها ..

 – إن كنت تلمحين إلى أن الظروف حالت دون زواجي و إنجابي لأمينة فأنت مخطئة كما هي العادة .. أنا لا زلت لا أتقبل فكرة أن يقسم المرء ذاته إلى قطع و يطالب بأن يطعمها بل – وتخيلوا هذا – أن يحرص على حمايتها و هي بعيدة عنه .. الواقع يا بنتي أن البشر مجانين .. لا أستوعب مدى الحماقة التي تدفع المرء لذلك .. أولادنا هم قطع منا .. قطع لها استقلاليتها الخاصة و حركتها الذاتية .. ربّاه من يتحمل ذلك ؟

 – لكن ماذا عن غريزة الأمومة و غريزة البقاء و .. قاطعتني و قالت : هراء ! هراااااااااء .. إن أفضل شيء نقدمه إلى أطفالنا هو ألا ننجبهم إلى هذا العالم .. هذه هي الأمومة الحقة !

قالتها بشكل قاطع لا يقبل النقاش .. و أكملت التنظيف .. !

أذكر الآن تلك المحادثة التي بدأها المطر .. كنا نقف عند النافذة نراقب الهطل الكثيف و نستمع إلى صوت ارتطام الماء المحبب .. كانت تستنشق الهواء بعمق مغمضة العينين .. ثم التفتت فجأة و قالت لي : قولي لي أيوجد أجمل من هذه الرائحة ؟ رائحة الحجر المبتل .. رائحة المطر .. مططت شفتي بما معنى : ممكن ..

– هييييييه .. ستقولين لي أن رائحة العطر الفلاني أطيب .. أعرفكم يا أولاد هذا الجيل .. لقد انفسد ذوقكم تماماً , روبوتات دون مشاعر ..

 – طولي بالك علي ! .. لم أقل هذا ..

– أتعرفين ؟ .. لقد فات مصانع العطور أن يصنعوا عطراً برائحة المطر .. و عطراً برائحة العشب المجزوز و آخر برائحة الخبز الطازج .. هذه روائح فريدة و جميلة و طبيعية أيضاً ..

– لا أحد يحب أن يمشي و هو يشعر بأنه فطيرة ناضجة !

لوحت بيديها بعصبية كما هي العادة و قالت : نجعله ملطف جو إذن !

ابتسمت عندما تذكرت هذا .. ابتسمت و الدموع تجعلني غير قادرة على الرؤية بوضوح .. لا مجال هنا لذكر خصالها و طريقتها المليئة بالشغف و هي تتكلم .. لقد كانت تذكرني بزوربا إلى حد ما , لطالما كنت أعتبرها المعادل الأنثوي له .. لم أقل لها ذلك لكيلا تفاجئني بأنها قد قرأته أيضاً !

 قالت لي في المرة الأخيرة التي أتت فيها للعمل أنها تعيش حياتها و كأنها بطلة فيلم يتحدث عنها .. قالت بالحرف الواحد : أنا بطلة فيلم من تلك الأفلام التي تأخذ الأوسكار .. اسمعي ..  هناك موسيقا تصويرية الآن ! .. أعيش حياتي و أنا أسمع الموسيقا التصويرية دوماً .. هذا الفيلم الذي يتحدث عن امرأة راضية بائسة تعمل لتعيش دون أن تسأل أحدا لهو فيلم جدير بأن يفوز بجائزة .. هل نهايته سعيدة ؟ لا يهم هنا .. ما يهم أنني أعشق كل دقيقة أمر بها و تمر بي ..

مسحت دموعي .. و نظرت إلى الهاتف .. الهاتف الذي حمل لي خبر موتها المفاجئ .. أرى بعين الخيال جسدها المسجى الصامت و على رأسه يقف شبحها ساخراً .. ربما كان يقول : هيييه أم أمينة .. الحياة تافهة كما كنت تقولين دوماً .. الحياة التي تقيدها جاذبية أرضية ليس حياة أصلاً .. ها قد تحررت من الجاذبية الحمقاء .. هذه هي الحياة الحقة !

 ترى كيف كانت نهاية الفيلم ؟ ..

 ( ملاحظة : القصة بأحداثها و أشخاصها تخيلية تماماً )

هديل خلوف ..

 18-4-2011

13
مارس
11

هو ذا يومٌ آخر ..



ترن ترن .. ترن ترن ترن .. ترن ترن ترن ترن ………
رنين المنبه هذا ! .. استيقظت شذى غاضبة قاطعة عهداً على نفسها بتغيير النغمة المزعجة تلك .. سوف تضع أغنية لفيروز أو ما شابه , ثم تذكرت أنها لن تستيقظ سوى بهذه الطريقة .. إن صوت فيروز و الألحان الأخرى تغريها بمواصلة النوم دوماً ..
نهضت بتثاقل و مشت تجاه المرآة .. تحب دوماً بدء يومها بمطالعة وجهها .. اليوم فقط خطر لها هذا الخاطر : ” ربما أيامي منحوسة وسيئة لأني أبدأها بالنظر إلى وجهي هعهعهع ” , ابتسامة باهتة لاحت على وجهها ..
” لكن فلأكن منصفة .. لو أن أيامي كانت بنصف جمال وجهي إذن لغدت أيامي نهارات مشرقة دوماً ! ” .. هي اليوم في الثلاثين .. حسناء قليلة الحظ في الثلاثين على حد قولها .. لا تعرف متى بدأ التذمر بالتحول عندها إلى هواية يومية , تذمر من النوع الذي لا يسمعه الآخرين .. أو بالأحرى هي لا تدع أحداً بمعرفته ..
كل يوم الروتين نفسه .. الاستيقاظ في العاشرة والنصف .. إشعال الراديو .. ترتيب الغرفة .. وضع الإفطار لأمها العجوز .. ثم اللحاق بالباص والذهاب إلى صالون تصفيف الشعر ( مكان عملها العتيد ) .. ثم العودة في الثامنة  لتجلس أمام التلفاز مع أمها العجوز بعد الانتهاء من ترتيب المنزل بالطبع .. فالسهر حتى الثانية صباحاً بالقراءة و النوم ..  لماذا لم تدرس ؟؟! لأنها حسناء قليلة الحظ و خاوية العقل كما تقول هي عن نفسها !
اليوم بالذات بلغ المؤشر في عدّاد الإحباط حده الحرج .. شعور لزج كريه يجثم على روحها .. و عندما كانت واقفة على موقف الباص أحست بأن دمعة وقحة تحاول الإفلات من عينها و تصر على ذلك ! .. هي لم تعد تحب رؤية المدام مودي ( اسمها ميادة لكنها تنظر إليك بازدراء إذا تجرأت بكل وقاحة و ناديتها بذلك ! ) لم تعد تحب رؤية النساء المتحذلقات المتعاليات بعد اليوم .. نفس الأحاديث و نفس السخافات تتكرر يومياً .. لكن .. ماذا تعرف ” غير هذه الصنعة  ؟ “
” أنا الغبية كان يجب أن أكمل دراستي ” .. قالت هذا و لفحة ثلجية غمرت و جهها و جعلت روحها تنكمش على نفسها أكثر ..
صعدت إلى الباص  و سارعت إلى أخذ مكانها في المقعد ذاته .. المقعد الثالث على اليمين .. هي تحب هذا المقعد فعدا عن كونها تجلس في هذا المكان بالذات طوال 10 سنوات إلا أنه مثالي حقاً .. فهو يتيح لها مراقبة الشارع عبر النافذة و بنفس الوقت مراقبة الصاعدين إلى الباص .. تشعر بمتعة حقيقية في محاولة سبر أغوار كل شخص و مراقبة حركاته و طريقة لباسه .. كم من مرة اكتشفت أشخاصاً يرتدون قمصانهم “عالمقلوب ” فكتمت ضحكة لذلك , و كم من مرة رأت تعبير الغباء ذاك عندما يكتشف الصاعد أنه لا يحمل نقوداً .. متعة حقيقية !
اليوم هي منطوية على نفسها لذلك اكتفت بإسناد رأسها إلى النافذة و مراقبة الطريق .. أشخاص يروحون و يجيئون .. شاب و فتاة يضحكان في هذا الجو الثلجي و كأن حالهما يقول  “فلتزأر العاصفة .. نحن معاً و نمتلك العالم ! ” ..
” أين يذهب كل الشباب الوسيمين ؟ دائماً هناك فتاة أخرى .. فتاة ذكية قد سبقتك أيتها البلهاء ! ”
 كانت مقتنعة بأن في أيامنا الحالية الفتاة هي من تجد الشاب و ليس العكس .. بماذا تفسر كونها وحيدة إذن ؟
” عندما كان هناك سامي أظهرت براعتك في بيان جبنك و سلبيتك .. انتظرته ليعترف لك بحبه و نسيتي بأنك أوحيتي إليه بأنك لا ترينه أصلاً ! “
تقول أمها العجوز : كل صديقاتك قد تزوجن فماذا ينقصك أنت ؟ فتنظر إلى أمها بحيرة و تصمت .. ربما لأن حظها قليل .. ربما هكذا فقط ..
تقول صديقتها مرام و هي تهدهد طفلتها : أنتِ يا صديقتي مغرورة .. مغرورة و تحسبين نفسك .. ماكان اسمها ؟ .. نعم .. تحسبين نفسك ماري انطوايت و العرسان على باب القصر ..
فتجيبها شذى : لكن ماري انطوانيت لم تكن جميلة .. هذا عدا عن أنها كانت متزوجة من لويس السادس عشر و كانت تذهب إلى قصر فرساي و أ ..  فتقاطعها مرام بأعين متسعة و قد وقفت عن هدهدة طفلتها : مغرورة و متحذلقة أيضاً ! .. سبحان الله !
مستوى الكبرياء لديها أكثر من اللازم , هي تعرف ذلك .. أو هو أكثر من اللازم بالنسبة لفتيات اليوم ؟! .. ليتها تدري ..
هاقد وصل الباص إلى وجهته .. تفرق الجالسون كلٌ إلى وجهته أيضاً .. لا أحد يخطر بباله أن يتوقف للحظة و يستمع إلى خواطر “سندريللا ” الحزينة هذه و يحاول مساعدتها .. نهضت بتثاقل أيضاً لتنزل .. سيكون عليها أن تقطع الشارع ذاك و تدخل من المفرق الثاني لتصل إلى صالون “مودي مودا فور هير ستايل ” ..
” هوذا يوم روتيني آخر يا شذى .. سيمضي كما قبله فلا داعي للإسراع أرجوك ِ ” .. شعاع شمس قد بدد الغيوم قليلاً و سقط على وجهها .. سقطت حقيبتها و انحنت لتلتقطها فرأت أنها قد تلوثت بالطين .. ضحكة طفل عذبة جعلتها تلتفت إليها .. رأت طفلاً قد تلوث فمه و أنفه بالشوكولا  يشير إليها ضاحكاً ..
” أنا حقيبتي ملوثة بالطين , و أنت ملوث بالشوكولا .. نحن متعادلان إذن ” .. التهم الطفل قضمة أخرى من قطعة الكاتو و قال لها و هو يلهث من فرط الانفعال : أضحك على “جاكيتك ” الممزق !
تحسست ظهر “الجاكيت ” الجلدي الأنيق و استطاعت لمس الجلد الممزق .. لابد أن مسماراً في مسند كرسيها المفضل قد أكمل النحس اليوم ! ..
تخيلت وجه مودي المتقلص و هي ترمق جاكيتها الممزق و حقيبتها الملوثة بالطين فابتسمت ساخرة  .. نظرت إلى الطفل لترى يده الممدودة ببقايا الكاتو : هذه لك .. كي لا تبكي ..
اتسعت ابتسامتها أكثر لتعلن عن ضحكة .. و قرصت التفاحتين الحمراوين على خدي الطفل معابثة .. خلعت “الجاكيت” و وضعته على يدها .. و في اليد الأخرى حملت حقيبتها الملوثة بالطين .. لن يكون هناك مودي مودا اليوم .. و ابتعدت بخطوات راقصة سعيدة تحت أشعة الشمس ..
هي حرة و بصحة جيدة و تمشي في الشمس .. ألا يكفيها هذا  ؟! ..

ملاحظة : يفضل سماع أغنية you’re not alone by Shayne ward  فهي تعبر عن القصة تماماً !
25 – 1- 2011
هديل خلوف ..

 
 

13
مارس
11

كان ياما كان .. في غابر الأزمان ..



 

في أزمان بعيدة بعيدة حيث الشمس برتقالية جداً و القمر يبدو كبيراً جداً .. في الخريف المئة و الخمسون تحديداً .. كان هناك أورفيولا و بيدرانو بيناتسيلي ..
كان بيدرانو بيناتسيلي ككل ابن رجل كهف عتيد .. قوي الشكيمة .. مفتول العضلات ..و كان أفضل من يصطاد حيوانات الماموث بين فتيان عصره ..  أما أورفيولا فكانت ككل فتاة في تلك العصر .. مولعة بالثياب المصنوعة من جلد الغزال عطر الرائحة ..
عندما يحين مقتل الشمس كان بيدرانو يصعد إلى الهضبة الواسعة فوق الكهوف ليراقب تلون السماء باللون الأرجواني , اللون الذي يأسره و يجعله مفتوناً .. يستمع إلى موسيقا النبع القريب .. و بغصن شجرة يحاول أن يرسم على التراب الجاف عوالم لا يدري كنهها تطل عليه كلما أتى هذا المكان .. لقد كان صياداً بارعاً نعم .. لكن علةً ما في نفسه تجعله يتوق إلى شيء لا يدري ما هو ..
في هذا المساء و حيث يعلو الدخان من أمام كل كهف , قطع عليه تأملاته صوتٌ لا يمتّ لصوت  أي حيوان يعرفه و أدرك بعد لحظات أن هناك فتاة في الجوار تجمع أشياءً من الأرض ..
كان اللون الأرجواني ينعكس على خصلات شعرها الذهبية الطويلة فيجعلها تضيء .. و أدرك بيدرانو من لونها أنها تنتمي لكهوف ” السيراتو ” القريبة .. و فيما هي منحنية تقلب الأحجار اقترب منها و قال بصوته الأجش العميق الذي لا يتناسب مع تقاسيمه الدقيقة : إن الضباع و نمور الماموتو تنشط عندما يقترب الظلام , لا يجب على كائن ضعيف مثلك أن يتجول وحيداً ..
التفتت إليه بحدة و نظرت بعيون عسلية بدت كالنار في وهج الشمس الصريعة و قالت : إن من يملك الوردة الحارقة لا يكون ضعيفاً و يستطيع صرع كل الحيوانات ذوات الأنياب !
– و هل تملكين حجر الوردة الحارقة ؟
– أنا أبحث عنه و سأجده , لقد تسللت خلسة إلى كهف جدي و رأيت كيف يبدو حجر الوردة الحارقة .
في تلك الأزمان و إبان اكتشاف النار ( الوردة الحارقة ) من قبل مونوروسيتا الأكبر , احتكر أبناؤه و أحفاده – بعد موته بصرعة دب بني – هذا الحجر و أورثوه لأسرتهم فقط .. و من بينهم جد أورفيولا الذي كان يدور على الكهوف كل مساء ليشعل لهم النار مقابل أن يعطوه حصته من جلد الغزال و لحم الماموث الشهي .
إن أورفيولا و المنتمية لقبائل السيراتو بيض البشرة كانت نادراً ما تغادر كهوف السيراتو لذلك شعرت بالرهبة في مغامرتها الأولى هذه عندما شاهدت شاباً داكن اللون لا يشبه فتيان السيراتو بشعورهم الصفراء .. كانت طريقته بالكلام غريبة أيضاً إلا أنها كانت تفهم ما يقوله على أية حال .
عندما حل الظلام و أورفيولا لم تجد الحجر المنشود .. نظرت إلى الأفق و ارتعدت و شعرت لوهلة أنها لن تستطيع المشي خطوة دون أن يظهر أمامها وحشٌ ما .. أدرك بيدرانو بيناتسيلي ذلك بحواسه الفطرية و عرض عليها المساعدة في إيصالها إلى كهفها و حمايتها من كل وحوش العالم على أن تعده بأن تسمح له بمساعدتها في البحث عن حجر الوردة الحارقة في الأيام المقبلة ..
عندما عاد بيدرانو بيناتسيلي إلى كهوف الأونغلونومو التي ينتمي إليها أدرك أن حياته أصبحت أكثر إثارة , فهو إلى جانب عمله كصياد عند الظهيرة صار لديه عمل آخر مختلف مساءً .. و مع من ؟ مع حسناء من جلدة مختلفة ..
ينص قانون الكهوف في تلك الفترة على أن يتزوج المرء عندما يتم الستة عشرة ربيعاً على أن يكون الزواج من فتاة تنتمي لنفس القبيلة و ذلك حفاظاً على اللون المميز لكل قبيلة .. و بيدرانو لمّا يتم الربيع السادس عشر بعد , لذلك تنحصر مسؤولياته حالياً في الصيد و تعلم كيف يكون رجل كهف شجاع .
أدرك بيدرانو بأنه عند حصوله على حجر الوردة الحارقة سيصبح أغنى من في قبيلته .. لذلك كان عند لقاءاته مع أورفيولا يبحث بجد عن ضالته دون أن يلتفت إلى السحر الموجود في الطبيعة و الذي يتناغم مع جمال أورفيولا التي كانت كربّة من ربّات الجمال الصغيرات .
في إحدى الأيام اقترحت أورفيولا أن يتم البحث ظهراً بدلاً من المساء , لأن الحجر سيبدو واضحاً أكثر في ضوء الشمس .. لذلك تسللت في اليوم التالي هاربة من حشد النساء اللواتي يقطفن الأعشاب و كذا فعل بيدرانو و في هذه المرة ذهبا إلى أماكن أبعد حيث وجدا نهراً تتراصف الحصى في قاعه و تنمو السرخسيات العملاقة على ضفافه , هناك جلسا يتأملان و هداها بيدرانو حلي مصنوعة من أنياب إحدى الضواري و بعد قليل بدأت أورفيولا بغناء بديع على أنغام سقوط الماء على النهر من صخرة مجاورة .. ثم توقفت عن الغناء فجأة  لتقول لبيدرانو : أتعلم لمَ أريد الظفر بحجر الوردة الحارقة ؟
– نعم .. لكي تحمي نفسك من خطر الوحوش ذوات الأنياب ..
ضحكت و ضحكت  ثم قالت : هو ذاك .. لقد قررت الهرب إلى هنا .. سأعيش هنا إلى الأبد !
– و .. و القبيلة .. و القوانين ؟
– في الصيف القادم سأصبح زوجة لأوتانيوسا .. أوتانيوسا الفظ الذي يحترق جلده حياً .. أنا لا أريد ذلك .. ثم استطردت لتغير الموضوع بطريقتها الجنونية تلك : أتعلم أن عدداً كبيراً منا لا يحتمل الحر المتزايد ؟ لقد قرر زعيمنا الأكبر الهجرة إلى الشمال لأن الحر أقل هناك .
نظر بيدرانو إلى أورفيولا طويلاً .. في الواقع هو أيضاً لم تعد ترق له بيغالوجي التي ستكون زوجته قريباً بعد معرفته لأورفيولا .. إن بيغالوجي مستكينة عديمة الخيال تماماً كالكثيرات هنا .. هو وجد في أورفيولا شيئاً مختلف .. شيئاً يثنيه عن النظر إليها باحتقار الكائنات القوية إلى الكائنات الضعيفة .. لأن أورفيولا مع أنها تنتمي إلى الكائنات الضعيفة – كما كانوا يسمون النساء في تلك الحقبة – إلا أنها كانت رقيقة و ليس ضعيفة !
لكنه ملتزم بقوانين عصره  و هو مع حبه لأورفيولا كان خائفاً من ضياع لونه الخاص و هذا ما جعله يعتبر زواجهما أمراً محرماً بلا شك ..
في مساء اليوم التالي جاءت أورفيولا راكضة متعثرة إلى المكان المعتاد .. كانت وجلة خائفة و تحمل في يديها حجرين أملسين .. قالت لبيدرانو : هلم إن رجال السيراتو في إثري .. لقد عاهدوا أنفسهم على ألا تظهر الشمس الجديدة إلا و أنا تحت تراب كهفي .
راعه تخيل مشهد دخول الرماح في جسد أورفيولا .. لذلك أخذ أعواد الشجرة التي يرسم بها و أمسك بيدها و مضيا راكضين ..

في الكهوف التي تعرف اليوم باسم كهوف تسيلي نرى على الجدران لمحات من الحياة التي عاشها بيدرانو بيناتسيلي و أورفيولا .. لقد أنجبا عدداً كبيراً من الأولاد و الأحفاد الذين شكلوا فيما بعد ما عرف بقبائل أتلانتيس و التي تعني باللهجة المحلية ” الوردة الحارقة ” .. لقد انقرضت أتلانتيس تماماً في يوم لم تعد فيه الشمس برتقالية جداً و لا القمر كبيراً جداً .. لقد أبيدت تماماً من قبل أحفاد السيراتو و الأنغلونومو الذين اعتبروا أن سكانها ملوثو الدماء ..
لم يبقَ لنا سوى رسوم بيدرانو بيناتسيلي العبقرية على جدران الكهوف المنسية ..

ملاحظة : القصة بأشخاصها و أحداثها و أسماء قبائلها تخيلية تماماً .. عدا فيما يتعلق بأسماء تسيلي و أتلانتيس ..

هديل خلوف ..

07
أوت
10

ما وراء النجمة ..


 

اعتادت نجوى الصغيرة  على سماع قصص الأحصنة المجنحة و الجنيات الطيبات اللواتي يحولن الفتيات البائسات إلى سندريلا .. كانت تنتظر بشوق ساعة ما قبل النوم حيث كانت أمها تحكي لها تلك القصص عن البلاد البعيدة البعيدة , تحكي لها هذا بصوتها الهامس الناعس و هي تمسّد شعرها .. تتابعها نجوى بأعين متسعة في بادئ الأمر , ثم لا تلبث أن تغفو على صدر أمها و تصبح واحدة من أبطال تلك القصص ..
في إحدى الليالي انتصرت الساحرة الشريرة الشمطاء و أركبت أمها على مكنستها السوداء لتأخذها بعيداً .. لقد قالوا لها أن أمها سافرت و كفى , لكنها كانت تعرف يقيناً أن أمها هناك .. ما وراء النجمة .. حيث يرقد كل الأحبة ..
نجوى الصغيرة قد أصبحت كبيرة الآن و ما يُخبئ وراء النجمة لا يزال يأسر خيالاتها .. لقد أصبح هذا المكان السحري يعج بالكثير من الأحبة و الآمال المفقودة ..

الغبار الذهبي  يُنثر كسحْر ..
يمتد نازلاً إلى الشجَر ..
مرهقاً يلاحقه الفكْر ..
ليعود صاعداً إلى القمر ..

ماذا يكمن في الضياء ؟
مالذي يفني الفناء ؟
كلما وُلد الرجاء ..
إنطفى نجمٌ و اندثر !

ما وراء النجمة حيث ترقد أم نجوى و جدها و جدتها و ألعابها الصغيرة .. ما وراء النجمة حيث تشع بعض الأحلام الخفية .. ما وراء النجمة حيث تسبح تلك العوالم التي وجدت في مخيلاتنا العابثة .. ماوراء النجمة حيث تصدح الألحان التي لم تؤلف بعد و تكتب النهايات التي لم يحن أن تعلن عن نفسها ..
أمام تلك البحيرة التي يفضضها القمر و ترصعها النجوم , جلست نجوى تتنسم الهواء المعبّق بالغبار النجمي .. لا تزال عيونها الواهنة و أحاسيسها التي شاخت تستطيع الاستمتاع بهذه الأعجوبة .. يسقط ضوء القمر على شعرها الأبيض فيكسبه تلك الهالة السرمدية  .. تبتسم .. لقد آن لروحها أن تمتزج مع ذلك الغبار النجمي و تطير على ذلك الحصان المجنح لترى ماذا وراء النجمة ..

هديل خلوف ..

21
جوان
10

ضجيج الصمت !


كل صباح هو مجرد يوم آخر عند سلمى .. إعداد الفطور .. إيقاظ أخويها من أجل المدرسة ..ترتيب المنزل و ” التعليق على الطبخة” ثم  إعداد الفطور مرة أخرى و إيقاظ الأخوات الثلاثة و الأم عند الواحدة ظهراً .. و أثناء النهار المزيد و المزيد من تحريك الشفاه و تغير تعابير الوجه .. و الصمت يعم ذلك كله ..
لا تذكر متى  كانت أول مرة شعرت فيها بأنها مختلفة عن الجميع , ربما عندما كانت ترى أخواتها يحملن حقائب على ظهورهن و يخرجن صباحاً بينما هي لا .. أو ربما عندما كانت أمها تحرص على عدم ظهورها في المناسبات التي يجتمعن فيها الكثير من النسوة .. أو هل كانت عندما بدأت تلاحظ أن الجميع يحرك فمه دون أن تفهم  مغزى ذلك ؟ هي لا تعرف حقاً ..
كل يوم هو عبارة عن حلقة أخرى في السلسلة ذاتها .. كل يوم تقريباً تصعد ” أم شاكر ” و ” أم صبحي” زوجات الحاج عمر ليشربن القهوة عندهم .. و سلمى رغم أنها لا تستطيع سماع ما تقوله المرأتان إلا أنها تفضل عدم الجلوس معهن .. هي لا تطيق تلك النظرات المتفحصة المسمومة التي ترسلها “أم صبحي ” إليها , كما أنها لا تستسيغ مراقبة أسنان ” أم شاكر” النخرة التي لا تطبق فمها أبداً ..
لقد وفر لها الصمت الدائم الذي تعيش فيه رهافة غير عادية و هواية محببة , تجلس في أوقات فراغها أمام التلفاز و تراقب .. هذا الرجل يعقد حاجبيه بينما المرأة تبكي و ترفع يديها أمامه متوسلة , إذن لا بد أن هذه المرأة قد أحرقت الطبخة فنهرها زوجها و هي الآن تطلب الصفح .. هذا المذيع يحرك فمه قليلاً مبتسماً بينما يبدأ الضيف بتحريك فمه باستمرار دون أن يغير من تعابير وجهه إذن لابد من أن المذيع يطلب من الضيف أن يعد كل أسماء أصدقائه الذين مروا عليه في حياته ! تجلس سلمى لساعات و تغير من تعابير وجهها و تضحك و تضحك .. لقد اعتادت روتين الحياة هذا مع أنها تتضايق عندما تبدأ أخواتها بتحريك أفواههن و أيديهن دون أن تعلم ما يقصدن ..
بالأمس صارت حفلة كبيرة في البيت و ارتدت أختها الكبرى ثوباً أبيضاً جميلاً و غادرت المنزل إلى الأبد مع ابن عمها الذي كانت تلعب معه في طفولتها .. ثم تكرر ذلك مع أختيها الأخريات .. كلهن لبسن الثوب الأبيض ذاك و غادرن المنزل .. بكت كثيراً كثيراً , لكنها أصبحت تشعر بالسعادة عندما أصبحن يزرن المنزل و السعادة تملأ وجوههن ..
الآن و قد خلا المنزل من الأخوات الثلاث أصبحت تشعر بالملل و هي ترى أخويها المراهقان يتعاركان طوال النهار و لا تدري لماذا , أصبحت تشمئز أكثر من زيارات “أم شاكر” و “أم صبحي ” , صارت تمقت نظرات أبيها المتوعدة الغاضبة كلما رآها تجلس على النافذة .. أين ستجلس إذن ؟ النافذة هي المكان الوحيد الذي يقدم لها دليلاً على وجود عالم ثانٍ خلف جدران البيت .. عالم لا يوجد فيه أناس يحركون أفواههم .. هناك تلك السوسنة الصامتة الساكنة مثلها .. هناك تلك العصافير التي لا ترمقها بنظرات يجب عليها تفسيرها .. كل مساء تجلس سلمى أمام النافذة بعد أن تأخذ دفتر أخيها و أقلامه خلسة .. تجلس لترسم ما تشعر به .. ترسم الكلمات التي لا تعرف حقاً ما هي .. هي تجهل وجودها أصلاً .. هي تعرف الغضب عندما تراه لكن لا تعرف أن هناك كلمة مؤلفة من غين و ضاد و باء هي الغضب .. و هي أيضاً تعرف الحب ..
كل مساء يخرج ذلك الشاب الوسيم في الشرفة المقابلة و بيده كتاباً .. كل فترة ينظر إليها ويبتسم .. يبتسم فقط لذلك كانت تبادله الابتسامة ذاتها .. لقد سرها استخدامه للغة تفهمها و تحبها ..
في إحدى المساءات لم تستطع الجلوس أمام  النافذة لأن أمها كانت في الغرفة .. لقد أجلستها الأم أمامها و صارت تمسد على شعرها و عيناها مغرورقتان بالدموع .. صارت تحرك فمها كثيراً و هي تفك ضفائرها و سلمى لا تفهم ..
في اليوم التالي طلب منها والدها الخروج إلى الصالون .. كان هناك “أم شاكر ” و ” أم صبحي ” بنظراتهما الكريهة .. و كان هناك الحاج عمر بصلعته الامعة و كأنها مدهونة بالزيت دائماً و شاربه الكث الرمادي ..  كان هناك رجل ملتحي ما ..  كل النظرات صارت موجهة نحوها هي ..لم تستطع هذه المرة فهم ما يجري حقاً ..
بعد شهر .. صارت هناك حفلة في البيت .. ألبستها أخواتها ثوباً أبيضاً لطالما حلمت به .. نظرت إلى وجهها في المرآة و سرت لجمالها .. اتجهت إلى النافذة و أخذت ياسمينتين و ضعتهما في شعرها , هي لابد وأنها مغادرة البيت .. لذلك ودعت العصافير و السوسنة .. لابد أن ذلك الشاب الوسيم هو من سيأتي الآن ليأخذها .. ستزور المنزل أيضاً كما تفعل أخواتها ..
عندما أحاطت بها ” ام شاكر ” و ” أم صبحي ” ليقدماها إلى زوجهما الحاج عمر ارتاعت لهول الأمر و اختلطت عليها الأمور .. لم تستطع بسنينها السبعة عشرة استيعاب المفاجأة .. تمنت لحظتها لو تستطيع تحريك فمها كالآخرين و شتمهم جميعاً .. لقد ملت الصمت .. نظرت إلى أمها دامعة متسائلة , لكنها لم تسمع صوت أمها المتهدج يقول ” يا بنتي بدنا نستر عليكي و نأمنك قبل ما نموت ! ” …… تباً للجهل !
   

هديل خلوف ..                                                                                                                                                                           

  21- 6 – 2010

12
جوان
10

سيمفونية الفصول .. @>–;—


عندما بدأت الخليقة , كان هناك هدية جميلة قدمت تباعاً و لاتزال إلى اليوم .. هي موسيقا جميلة مؤلفة من أربع مقطوعات يسمعها كل محبٍ للحياة .. بالنسبة لي أنا لاأحبها .. بل أعشقها ..

 أعشق الخريف بحزنه و صمته و “وشوشاته ” التي يبثها إلينا أحياناً من خلال أوراقه المحتضرة التي تلامس وجوهنا .. أعشقه برائحة الملابس المدرسية الجديدة التي كنا نشتريها يوماً .. بتلك الاستاتيكية التي تعبق
 في جوه .. بلسعة البرودة المفاجئة و التي تجعلنا نهرع إلى منازلنا مسرعين لكي نلبس تلك الكنزة الصوفية .. في الخريف تستيقظ الرومانسية من مكان ما و تجعلنا نحب أن نمشي فوق الأوراق لنسمعها ” تتقرمش”  تحت أقدامنا شاعرين أنها تساوي قلوبنا في هشيمها .. في الخريف يصبح التأمل  على النافذة طقساً يومياً , و الشرود في المحاضرات لابد منه .. رباااه كم حزينٌ هو هذا الفصل .. أكاد أسمع أنينه و أشعر بحرقة قلبه !

نأتي إلى الشتاء بصخبه و قسوته و نقراته الدقيقة على زجاج نوافذنا .. أحبه لثورته على كل ما هو رتيب و هادئ , لنقاء أوكسجينه , لمفاجئاته الثلجية أحياناً التي تجعلنا نصرخ انبهاراً فتعيدنا صغاراً .. في الشتاء  يصبح كوب “النسكافيه” في يدينا لذة بحد ذاتها و تصبح رائحة الكستناء الخفيفة شيئاً مألوفاً في جو البيت .. أجمل ما في هذا الفصل هو أنه يحرق بشرتنا دون شمس فيعطينا أنف المهرج الشهير لنسمع عدة تعليقات  ضاحكة حوله ما إن نصل إلى الكلية .. في الشتاء تبكي الأشجار و النوافذ و نبكي معها أحياناً في تلك الليلة الفاصلة بين سنتين , ربما نبكي لوحدتنا , أو لخوفنا من الرعد , أو لا لشيء إلا بهدف البكاء .. رباااه كم قاسٍ  هو هذا الفصل .. أكاد أسمع صراخه و أشعر بغضبته !

بعد الشتاء يأتي ذلك الشيء الرقيق الحالم .. الربيع .. أيام بيرسيفونيه الجميلة و أحب المقطوعات إلى قلبي .. في هذه الأيام تظهر الورود و الفراشات من مكان ما و تحتفل بنا .. نمشي في الطرقات على إيقاعات لحن  طفولي  .. في الربيع نعشق الحياة و تتدفق فينا طاقة كبيرة لم نكن ندري أنها موجودة أصلاً .. في الربيع تتورد خدودنا و نصبح أجمل و كأن الطبيعة أبت إلا أن تعطينا لمحة من الجمال المكنوز فيها .. أعشق الربيع  بنسماته العطرية لزهور لا نعرف أسماءها , بألوانه التي تبدد اكتئابنا الداخلي و ظلمته , برقته التي يرينا إياها أحياناً على شكل رذاذات مطرية خجولة , أحبه بقطر نداه , بشمسه اللطيفة , بهمساته الساحرة ,  بالرحلات مع الأصدقاء و الأسرة .. ربااااه كم رقيقٌ هو هذا الفصل .. أكاد أسمع أغاني الربيع و أشعر بهمساته العطرة !

الصيف الشقي ..المرح أبداً كطفل يلاعبنا و “يرشرش” وجوهنا بالماء خلسةً , ذلك الماء الذي اكتسب حرارة يديه و عبث أياماته   .. أحبه بقمره الجريء الصريح , بالكسل الجميل الذي يغرينا به , بشمسه التي تصر  على إزالة ثلج بشرتنا و وضع بعض “النمشات ” عليها , لذلك ترتبط رائحة الصيف دوماً برائحة ” الكريمات المضادة للشمس ” التي تنجينا قليلاً من عذابات الاحتراق .. و مع ذلك نحب أحياناً المشي تحت شمسه  الحارقة شاعرين بأن الدفء يتسلل إلى أعمق أعماقنا .. حلاوة الصيف في عصائره و مثلجاته ” الطيبة” .. في هذا الفصل تطيب الجلسة في الشرفة عند الغروب مع الكرز المثلج و عصير التوت مستمتعين بموت من  تسبب بالحر و منعنا من الخروج ظهراً ..
رباااه كم عابثُ هو هذا الفصل .. أكاد أسمع قهقهاته الخبيثة و أشعر بغمزاته الساخرة !

و تستمر السيمفونية ذاتها .. و تستمر .. وتستمر .. ونردد أحاديثنا ذاتها و أفعالنا ذاتها لنؤدي بذلك دور الجوقة التي ربما تحجب الموسيقا بضجيجها العالي و عدم تناسق أصواتها .. نلوك ماديتنا المقيتة بينما يردد الكون  من حولنا لحنه الأعظم السرمدي ..

ملاحظة : تروي الأساطير الإغريقية أن كان هناك فتاة جميلة جداً اسمها ” بيرسيفونيه ” و أن الكون كان عبارة عن فصل واحد فقط و هو الربيع .. غضبت الآلهة على بيرسيفونيه و أجبرتها على الزواج من حاكم  الأرض السفلية ” مملكة الموت أو هيدز ” .. عندما رحلت بيرسيفونيه إلى العالم السفلي مع زوجها ساد الظلام الأرض و اختفى الربيع .. لكن زوجها سمح لها بأن تزور والدتها لمدة ثلاثة أشهر من كل سنة هي أشهر  الربيع الذي يأتي مع مجيء بيرسيفونيه من العالم السفلي !

 

هديل خلوف ..

03
ماي
10

كيفك إنتَ ..


انتهت سمر من تصحيح أوراق الامتحان في السادسة صباحاً .. لذلك أشعلت المذياع و أعدت لنفسها فنجاناً من القهوة اصطحبته إلى قرب النافذة و جلست .. لقد كانت تثلج .. و مع صوت فيروز و الدفء المحبب لفنجان القهوة أحست بأن الحياة لا يمكن أن تكون أجمل من هذا .. ثم تصلب فنجان القهوة بيدها مع بدء الموسيقا المميزة لأغنية “اشتقتلك ” …
” يااااااااه .. مازلتِ تشتاقين إليه أيتها الغبية !”
كان يحب هذه الأغنية .. و كانت تذكرها به .. عرفته صديقاً في أيام الكلية .. التقيا فكرياً بشكل عجيب , لهما نفس الاهتمامات .. نفس العشق للحياة .. لديهما ذلك التعامل الراقي الذي كان يثير ذهول من حولهم فيعتبروهما كائنين غريبين تنكرا بشكل ما ليصبحان مشابهين لسكان الأرض …لكن عيباً وقحاً فيهما لم يغفره لهم أحد , و هو أنهما من جنسين مختلفين !
طبعاً كانت لها صديقاتها و له أصدقائه .. لذلك كثرت الهمهمات و الاتهامات و التعليقات  .. تذكر جيداً كيف قالت صديقتها هبة ذات مرة بخبث : من الواضح أنكما تهيمان عشقاً , فلم لا تعلنان ذلك فقط و تكفان عن تلك التمثيلية السخيفة ؟! نظرت إليها وقتها بدهشة من يسمع تخريفات طفولية و أجابتها : ألم تفهموا ذلك بعد ؟ نحن صديقين .. أنا أحب الحديث معه و هو أيضاً .. الأمر بهذه البساطة !  فتتمتم هبة مع حركات استياء على وجهها : تعود و تقول صداقة ! إما أنك – و لا مؤاخذة – حمقاء , أو كاذبة .. يا حلوتي الصداقة بين الشاب و الفتاة أشبه بالصداقة بين النمر و الغزال أو بين …
– وصلت وصلت الفكرة .. لا داعي لهذه التشبيهات الغريبة .
كان اسمه فادي .. كانت تلقاه أسبوعياً .. تناقشا كثيراً و في كل الأمور .. كم من مرة استشارها من أجل الفتاة الفلانية التي تعجبه .. و كم من مرة بكت أمامه لأن صديقتها الفلانية أو دكتورها الفلاني قد قال كلاماً جارحاً بحقها .. لقد كان الاثنان ثرثارين بشكل كبير .. لقد أفنوا الكلمات كلاماً  ..
سألها مرة : ما هو رأيك بالحب ؟ فقالت : الحب  لا يعلن عن نفسه أبداً .. إن الحب الذي يخرج من الشفتين لا يبقَ حباً  .. الحب الحقيقي هو ذلك الشعور الذي يبقيه المرء في داخله لأنه ببساطة لا يريد مطالبة حبيبه بشيء .
– ممممم .. أنا لست أوافقك بهذا .. فالحب الذي تتكلمين عنه ليس حباً , لأنه لو كان كذلك لخرج و أعلن عن نفسه “و اللي بدو يصير يصير ” ..
– إن الحب شعور راقٍ و مقدس , و عندما يُعلن يصبح مبتذلاً ..
(هيدي السجرة العتيقة يلي ما كنا نطيقا .. حبيتا و اشتقتلا و اشتقتلك ! )
لم تستطع سمر أن تئد دمعتها هنا .. وذهبت بفكرها إلى ذلك اليوم الذي التقت به قبل أن يسافر إلى بريطانيا .. طبعاً كانت تعلم أحلامه و طموحاته في السفر .. لقد قال لها أنه يريد لقائها قبل أن يرحل لأنه لن يلقاها بعد الآن .. سيستقر في مدينة الضباب .. تذكر ذلك اليوم بوضوح , تذكر تلك الشجرة العتيقة التي وقف قربها قبل أن يستدير و يمشي نحو مستقبله .. لقد كان هذا منذ 15 سنة .. وقتها انهمرت دموعها لدرجة أذهلتها هي نفسها , لم تكن تعلم أن لديها هذا المقدار من الدموع ! ثم قالت و هي تزجر دموعها :
– آسفة جداً .. أنا فرحة كثيراً لأنك ستحقق أحلامك هناك .. كل ما هنالك أنك أول شخص يسافر من معارفي ..
– ولا يهمك .. لقد كنتِ صديقة رائعة .. سنبقى على اتصال ..
تبادلا عدداً من الرسائل .. في السنة الأولى كانت تأتيها رسالة كل شهر على غرار ” كيف حالك .. كم اشتقت للحديث معك … ” ثم يبدأ بالحديث عن البلد الجديد و عادات البلد الجديد و أناس البلد الجديد .. و بالتدريج زادت الفترة بين الرسالة و الأخرى و قلت السطور .. لقد كان تناسباً عكسياً محكماً ..
سمر ليست بلهاء تماماً .. لذلك كانت تحاول تفسير الحنين العنيف الذي ينتابها منذ سفره .. ” لو كانت هبة  أعز صديقاتي هي من سافرت لما كنت فكرت بها على هذا النحو ” ..
بعد انقطاع طويل .. بعثت إليه برسالة قبل سنة من الآن .. لكن لا رد !
فتحت سمر النافذة لتلفحها النسمات الثلجية الباردة .. هي الآن عانس .. لماذا لم تتزوج ؟؟ لم يرق لها أي من الشبان الذين قد تقدموا لها .. ” فادي كان أجمل من هذا ” .. ” يااااه ..  فقط لو يسمعوا كلام فادي ! ” .. ” تؤ تؤ تؤ ..كم كان فادي أنيقاً و متحضراً .. أما هذا … لا لا لا أريده “
صدح المذياع هنا بأغنية ” كيفك انت ” .. 
” لااا … أغنيتين تثيران في نفسي الحنين .. فلترحمني أيها المذياع , إن روحي تحترق ” ..
(كيفك قال عم بيقولو صار عندك ولاد .. أنا والله كنت مفكرتك برات البلاااااد ..)
انتباتها نوبة من الضحك الهيستيري و هي تتخيل أن تلقاه يوماً ما في السوبر ماركت و بجانبه “المدام ” البريطانية و حوله يتقافز ثلاثة أطفال أشقياء .. فتفتح فمها اندهاشاً : فااااادي .. أنت هنا ؟!
فينظر إليها بسرعة ثم يتمتم بشيء ما لشقرائه و يقول ببرود : أ .. سمر , أليس كذلك ؟ كيف الحال و “شو أخبارك ” ؟
أخباري ؟؟  .. هه ! .. أنا الآن عانس يا فادي .. عانس ..
و هي واقفه أمام النافذة تتنسم الهواء البارد بعمق  شعرت بمدى غبائها .. لا يوجد أغبى من ألا يفهم الإنسان ذاته … إنه شعور مريع ألا تعرف ماذا تريد أو كيف تشعر ..
هل تحبه ؟ .. سألت نفسها مراراً .. لا تزال تعتبره صديقاً عزيزاً ينتابها شعور غريب تجاهه .. و لكن مالا تفهمه أيضاً .. كيف كان ينظر إليها هو ؟
أغلقت النافذة و أسكتت المذياع و لملمت أوراقها .. لقد حان موعد الدوام المدرسي ..  بانتظارها تلاميذ  عليها أن تعلمهم .. تعلمهم أشياء كثيرة كثيرة .. عن الحياة و الحب  ..

هديل خلوف ..

     14-2-2010

02
ماي
10

عندما تفنى الظلال ..


عتاد سامر أن يجلس مع جده العجوز كثيراً .. يستمع إلى قصصه التي كان يراها أفضل من قصص التلفاز بل كان يستمتع بالوقت الذي يقضيه معه أكثر من الوقت الذي كان يلعب فيه مع صديقه رامي في باحة المدرسة , كان سامر في السابعة من عمره تقريباً عندما أجلسه جده على ركبتيه و دار بينهما الحوار التالي :
– غداً يا سامر .. عندما أذهب عن هذه الدنيا .. سأكون معك دائماً .. عليك أن تعدني بأنك ستبقى دائماً الولد المجتهد الذي عرفته دوماً ..
اتسعت عينا الصغير و قال : لكن جدو .. إلى أين ستذهب أنت ؟
– إلى الأرض التي لا يوجد لي فيها ظل يا بني ..
اتسعت عينا الصغير أكثر و قال : و هل توجد أرض بلا ظلال جدو ؟
– نعم يا بني .. لكنها بعيدة .. بعيدة ..
– ما اسمها ؟ كي أذهب إليها أنا أيضاً .
– ستعرفها يوماً .. لكن لا تتوقع أبداً أن تجد إجابات سهلة و جاهزة لكل أسئلتك .. ستعرفها يوماً ..
– و لكن جدو .. أريد أن أعرف !
– قلت لك ستعرفها و كفى .. لا تكن لحوحاً ..
و لأن سامر كان فضولياً جداً .. أسرته فكرة تلك الأرض .. أرض بلا ظلال , يا سلام ! لذلك عزم على سؤال الآنسة مها .. مدرسته في الصف الثاني ..
– متى يصبح الإنسان لا ظل له ؟
ضحكت الآنسة مها كثيراً .. حيث أن أعقد سؤال طرحه عليها تلميذ في مثل سنه هو إن كانت متزوجة أو لا .. أجابته بعد برهة تفكير :
أعتقد أنه يصبح كذلك في غرفة منارة بإنارة قوية في كل جوانبها …
و لأنه أراد أن يتأكد أكثر .. سأل والده و هو يقرأ الجريدة .. ( أبي يقرأ الجرائد إذاً هو يعرف كل شيء ) ..
– بابا .. متى يصبح الإنسان بدون ظل  ؟
– أزاح الوالد الجريدة جانباً و تفرس في وجه ابنه مستغرباً  ثم قال له ضاحكاً : هل فقدت ظلك بني ؟ ثم تابع القراءة ..
لكن أمه سمعت سؤاله فأجابته : يصبح الانسان بدون ظل في غرفة معتمة كلياً لدرجة أنه لا يرى فيها نفسه حتى !
أجابها الوالد : لا تكوني سخيفة .. لا يوجد ظلام دامس .. حتى في الظلمة الشديدة تعتاد أعيننا على الأمر و نبصر الكثير من الظلال ..
أجابته صديقته سمر ذات الضفيرتين الشقراوتين بأن أبطال الرسوم المتحركة لا ظلال لهم : ألم ترى كيف ميكي لا يترك ظلاً على الجدار ؟ و قال له آخر : مصاصو الدماء لا يتركون ظلالاً ..
ابتعد سامر خائب الأمل .. فلا أحد ممن سأله أجابه بأنه يصبح كذلك في أرض اللاظلال .. لا أحد فتح له المجال لكي يسأل عن هذه الأرض ..
بعد أسبوعين .. لم يعد هناك ” جدو ” .. لقد مات المسكين قبل أن يذهب إلى تلك الأرض !
و كديدن الأطفال .. نسي سامر بعد هذه الأحداث كل شيء عن الأرض تلك ..
كبر سامر و أصبح مهندساً ناجحاً و أصبحت هناك طموحات كثيرة كثيرة تتسابق في عقله .. لكنه استعاد تلك الأحداث كاملة عندما وجد نفسه مرمياً على إسفلت الطريق بعدما ضربته سيارة مسرعة .. تذكر أرض اللاظلال تلك و هو يرمق إسفلت الطريق و يشم رائحة الدماء و يستمع إلى عشرااات الأصوات الضاجة من حوله : لا حول و لا قوة إلا بالله .. اتصلوا بالإسعاف يا شباب .. لساتو شب بأول عمرو يا حراااام !
بدأ وعيه بالتسرب رويداً رويداً .. و أصبحت الرؤية أكثر قتامة .. و تردد صوته العقلي متمتماً : تصبح بلا ظل عندما تفقد وجودك المادي .. هل فهمت أيها الأحمق ؟ عندما تـ تـ تمـ…..
من المحزن حقاً كيف تأتينا المعرفة متأخرة أحياناً ..!

هديل خلوف ..

    5-1-2010

01
ماي
10

موعدٌ مع فينوس ..



لطالما سخروا من شادي .. شادي العاطفي الرقيق كالفتيات في نظرهم .. لذلك ترون شادي وحيداً في أغلب الأحيان , عندما يصادق المرء نفسه يصبح بمنأى عن سخرية الآخرين و همساتهم .. هو اليوم – و بعد فشله    الذريع في العمل في بلاد الخليج – يعمل في مكتب الشحن العائد لخاله .. عمل مريح جداً و مناسب خصوصاً إذا علمنا أن له طاولة أنيقة في صدر المكتب و أن عليه فقط أن يقوم بتوجيه العمال و القيام ببعض  الحسابات و الجدولة على جهاز الحاسوب أمامه ..

يستقيظ باكراً جداً كي يوصله أخوه الطبيب بسيارته قبل ذهابه إلى المشفى , ساقه مكسورة من بعد قصة قشرة الموز إياها لذا فهو لا يستطيع ركوب المواصلات العامة ..

” لك يا ابني و الله قعود و ارتاح لبين ما تطيب .. خالك ما بدو شي منك بهالظروف ” .. تكرر أمه هذه الأسطوانة كل صباح حتى اعتادها كفنجان القهوة و صوت فيروز ..

هو لا يريد الانفراد بنفسه .. ” ألم تفهموا هذا بعد ؟” .. مالذي استفاده من وحدته في الغربة سوى المزيد من العقد النفسية التي أضيفت إلى أطنان العقد السابقة ؟ إن صاحبي النفسيات الهشة لهم في تعاسة حقيقية .. لا  يستطيعون الاندماج بالآخرين و لا يستطيعون التأقلم مع ذواتهم !

هذا الصباح كما كل الصباحات الماضية .. الجلوس وراء المكتب دونما حراك و تمضية الوقت وراء شاشة العالم ( كما يسمي الحاسوب ) ريثما يأتي العمال في التاسعة .. فنجان القهوة الثاني و الشرود و الرسومات  اللاإرادية على الورق الأبيض أمامه .. بما أن طاولته كانت مواجهة لزجاج المكتب , أتاح له ذلك مراقبة الناس وهم يذهبون إلى أعمالهم .. هوذا الطفل الصغير ذو القبعة المضحكة ينتظر و أبيه “باص” الروضة ..  يأتي في السابعة و الثلث عادةً , و هاتان هما البنتان التوأمتان ذوات الجدايل بمريولة المدرسة الزرقاء تمسك كل منهما يد الأخرى ” من المؤكد أن أمهما قد أوصتهما بعدم إفلات بعضهما و إلا سيأكلهما العو ! هههههه  ” هكذا فكر .. عندما تقترب الساعة من الثامنة يصبح المشهد أكثر إثارة .. يصبح الرصيف أكثر ازدحاماً و الناس أكثر سرعة .. يرى عندها الرجل الخمسيني الذي يشكل خصره محيط دائرة .. كل ما فيه يشي بأنه  موظف حكومي .. موظف حكومي مرتشي .. نعم .. فعينيه الماكرتين تفضحانه , الآن يركض كعادته إلى موقف الباص والدائرة تترجرج .. ” يا إلهي .. أي معمل ينتج هذه النسخ كلها في هذا البلد ؟ أكاد أقسم أني  أرى هذا الرجل 500 مرة يومياً ! ” …

هناك أناسٌ لهم مواعيد محددة كل يوم و أناسٌ لا .. مثلاً تلك الفتاة الرقيقة و الواضح أنها جامعية تظهر كل يوم في موعد مختلف .. هي رقيقة كزهرة … لا يعرف لمَ تذكره بفينوس , فينوس ترتدي كنزة صوفية و  بنطال عصري .. تقطع كل يوم الشارع باتجاه رصيف المكتب و هنا يشيح ببصره دائماً لأنه لا يحب أن تراه ينظر إليها .. ثم يرفع رأسه بعد هنيهة ليراها قد اختفت .. اليوم قرر أن بتصرف بشجاعة و يتأملها عن   قرب عله يستطيع رسم ملامحها فيما بعد .. تقترب و تقترب .. ” رباااه .. كيف استطاعت الرقة أن تمشي على قدمين ؟ رفقاً بها أيها العالم القاسي ” .. و هنا لم يصدق عينيه ! لقد توقفت لأجزاء من الثانية و نظرت  باتجاهه عبر الزجاج .. أجزاء من الثانية كانت كافية لكي يلاحظها و كي يتزلزل عالمه الداخلي .. هذه الفتاة تنظر إليه !

 أصبح لشادي مبرراً آخر كي يستيقظ باكراً .. إنه على موعد مع فينوس !.. يجلس وراء الطاولة و ويدير الراديو على أغنية رقيقة لفيروز و يتأمل .. كل يوم تقف لأجزاء من الثانية و تنظر باتجاهه .. البارحة لوح  إليها بيده فلاح شبح ابتسامة خجولة عى وجنتيها وأكملت طريقها .. هو يحب الفتيات الخجولات اللواتي أصبحن نادرات في هذه الأيام .. لقد حفظ مواعيدها بدقة و صار يعد الأيام كي تشفى ساقه ليعبر الحاجز  الزجاجي و يهديها القصيدة التي يجهد في تأليفها في أوقات الملل …

 

هل انشقت السماء و هُدت الجبال ؟

هل طوّت البحار و تلاشى كل المال ؟

هل انتحر القمر ؟ هل ازرق الشجر ؟

إذن لماذا أنتِ هنا ؟ يا .. فينوس ..

*****

هل تغير وجهي ؟ هل نسيت اسمي ؟

هل توفي حظي ؟ هل فقدت عقلي ؟

هل بكى السحر ؟ هل فني السمر ؟

إذن لماذا أحببتني أنا ؟ يا .. فينوس ..

 

 لقد صار في حياة شادي معجزة .. لقد اهتمت به فتاة و أخيراً .. هو الذي كان يعتقد بأن الفتيات يفضلن النظر إلى صرصور مقتول على النظر إليه .. لا يعرف سبب عزوف الفتيات عن الحديث معه .. هل هو أنفه  الطويل ؟ أم عيناه المنهكتان ؟ أم شحوبه المرضي الناتج عن متلازمة وراثية في الكليتين لاذنب له فيها .. ” ليس ذلك يا أحمق .. بل لأنك جباااان ” قالها له أحد أصدقائه القساة .. و عرف فيما بعد أن السبب كذلك ..

 إذن لن يبقى جباناً للأبد .. هاهي ذي ساقه تتحسن و قصيدته قد بدأت تكتمل .. سينتظرها على باب المكتب و يصارحها بكل شيء , لقد تعب من التلويحات و الابتسامات ..

اليوم هو الموعد .. ! ضبط ساعته جيداً و وضع “الجل “على شعره – مع أنه يمقته – و حاول جاهداً إبعاد تلك النظرة المتعبة من عينيه .. يقف الآن أمام باب المكتب .. رأى الطفل الصغير يصعد إلى باص الروضة و  يلوح لأبيه .. التوأمتان اللواتي بدين أكثر قبحاً عن قرب .. الموظف المرتشي يهرول فتترجرج كرشه … إذن سوف تظهر فينوس الآن ..

كعادتها .. خجولة .. جميلة .. تنسدل خصلة الشعر على وجهها فتبعدها إلى ما وراء أذنها .. تنظر باتجاهه نظرة عابرة دون أن تتوقف هذه المرة .. عطرة كزهرة .. رقيقة كما يمكن للرقة أن تكون ..

” يا آنسة ” .. تلتفت إلى الوراء و تتوقف و بعينيها ألف سؤال .. يقترب منها و يقول : لقد ألفت لك قصيدة !

” عفواً ؟ ” ..

ارتبك قليلاً و قال : معك حق .. لقد تغيرتُ عليكِ بهذه الأناقة المبالغ فيها .. أنا ذلك الشاب وراء الطاولة الذي يبتسم لك كل يوم و تبتسمين له.. الحق أنك أجمل مما كنت أراك من وراء الزجاج ..

ردت بعد لحظة صمت و ذهول : إنت واحد وقح و قليل أدب !

أزاحت الخصلة من على وجهها بعصبية و استدرات لتمشي حثيثة الخطى دون أن تنظر إليه ..

صعقته المفاجأة و ألجمته الدهشة و استدار هو الآخر عائداً إلى المحل .. ليرى انعكاسه الكامل على زجاج المحل .. انعكاسه هو باصفراره و أنفه الطويل و عينيه المتعبتين الحزينتين .. ” إن زجاج المكتب من النوع  العاكس فكيف كانت تراك أيها الأحمق ؟ ” .. لقد كان يراها هو لكنها لم تكن ترى سوى نفسها .. هي أجزاء من الثانية كانت كافية لفينوس لكي تعيد تصفيف شعرها و الاطمئنان لجمالها .. لم  يكن يدري أن فينوس نرجسية إلى هذا الحد !

 هديل خلوف

30\4\2010

30
أفريل
10

لقاء غريبين ..


وقف على الجسر الممتد فوق بحيرة مشيغان واضعاً يديه في جيوب معطفه السميك متأملاً انحدار الشمس التي بقي من حياتها دقائق معدودة …
وقفت على الجسر الممتد فوق بحيرة  مشيغان مستندة على مرفقيها وواضعة رأسها بين قفازين من الجلد متأملة أسراب الطيور التي تشق قرص الشمس …
تمتم بصوت استطاعت سماعه : يا إلهي … لا أستطيع تحمل كل هذا الجمال ….
قال هذا بالعربية …
تنهدت و التفتت إليه لترى شاباً أفصح لون بشرته و عينيه على أنه من بلاد الشام .. من موطنها ..
أعادت النظر إلى المشهد الذي صار أكثر إجلالاً من ذي قبل و اغرورقت عيناها بالدموع .. و تمتمت بعد برهة : لماذا وجد الموت ؟ أرثي لحال الشمس .. أرثي للونها الدامي ..
التفت بدوره إذ أدهشته اللغة العربية التي تقول أنها من بلاد الشام .. من موطنه …
– إن الشمس كما كل الأشياء الجميلة في هذا العالم .. لا تعيش طويلاً ..
– و المصيبة أن موتها يتكرر يومياً ..
– و نحن لم نعتد بعد على هذا ..
– أتعرف ؟ .. يخيل لي أحياناً أن شمس أمريكا ليست ذات شمس بلادنا .. هي جميلة نعم … لكن شمسنا أحلى ..
– إننا في الغربة هكذا .. نتحسر على شمس بلادنا الحارقة .. و على باصاتها المزدحمة ..
– نعم .. في الغربة .. تصبح ثرثرة جارتنا في بيتنا القديم شيئاً محبباً بل أتمنى أن أعود و أسمع ثرثرتها مجدداً و مجدداً ..
– حتى البائع الجوال بصوته الجهوري المزعج صرت أفتقده ..
ضحك و ضحكت … الآن صارا يريان أضواء شيكاغو بكل وضوح …
ضمت معطفها على جسدها و قالت : يا إلهي لقد أصبح الطقس بارداً جداً ..!
– ليس أبرد من الموت ..
– من المحزن حقاً أننا سنموت في النهاية , أحياناً أقول في نفسي : إذا كانت أحلامنا و ضحكاتنا و أفكارنا ستزول بزوالنا .. بربك فما قيمة الحياة التي نحياها ؟
– و لكن الحياة مغامرة و مقامرة تستحق أن نحاول العيش فيها و من يرفض المحاولة ضعيف ..
– المصيبة أننا لا نختار مولدنا .. نحنا جئنا إلى هذه الحياة مجبرين .. لم يأخذ أحد رأينا !
ضحك .. و قال لها : صه .. أنت تكفرين بنعمة كبيرة يا فتاة ..
ابتسمت مجاملة و قالت : من عاش حياة كحياتي جدير بأن يقول هذا ..
– بالمناسبة أنا اسمي بـ ….
قاطعته بإشارة من يدها على فمها لئلا يتابع و قالت : أرجوك .. لا تقل لي اسمك ..
– و لماذا ؟؟!
– ليكن لقائنا هذا لقاء غريبين في بلد غريب .. لقاء أفكار و أشجان .. لا أريد أن يزداد عدد معارفي واحداً ..
– حسنٌ … ليكن .. و لكن هل تعديني بأن تأتي غداً إلى نفس هذا المكان ؟
– قلت ليكن لقائنا لقاء غريبين .. إن جئت غداً و بعد غد لن يكون كذلك ..
-as u like
– ok then … bye
– bye..
أنزلت قبعتها أكثر لتغطي أذنيها و تابعت طريقها .. و نظرت إلى الساعة .. لقد حان موعد جلسة العلاج الكيميائي الأولى .. “كم أن السرطان مرض عنيد” !
أما هو .. قلب ياقة معطفه ناشداً الدفء أكثر .. و تذكر أن عليه الذهاب  إلى مكتب المحامي لينتهي بسرعة من إجراءات الطلاق .. لقد جعلت “كارلا” حياته لا تطاق !

هديل خلوف ..

9-1-2010

29
أفريل
10

قطرات الندى تحرقني ..


عزيزتي سلمى :

هاقد مرت سنة كاملة على إيداعنا هاهنا .. في هذه الغرفة الكئيبة .. الغرفة رقم 13 .. أتساءل إن كان أحداً يهتم بأمرنا حقاً ..

أكتب إليك لأنني قررت الانتحار ! لم أعد أحتمل كل هذا العذاب الأجوف , الذي لا طائل منه ..

لكِ كل تحياتي و دموعي ..

قطر الندى .. مها .

*********************************************

عزيزتي مها :

لقد صدمت حقاً بهذا القرار الصارم ! لقد عرفتك دائماً جبانة متخاذلة تحتار بين القهوة السادة و القهوة الحلوة ..

أقول لك بل أتوسل إليك ألا تفعلي هذا ! الحياة قاسية نعم .. بالله عليكِ لا تكوني أقسى على نفسك منها ..

لكِ كل محبتي و صلواتي ..

لهيب الشموع .. سلمى .

*******************************************

عزيزتي سلمى :

الذي يعد العصي ليس كمن يذوقها ..

أنا لم أقرر الانتحار لمجرد أني أملك هذا الترف .. أنتِ لا تكونين موجودة في جلسات الصدمات الكهربائية صباحاً ..

أنت يا عزيزتي تأتين عند المساء .. عندما تهدأ المهاجع و يفنى النهار بضجيجه و ألوانه المحرقة و يفنى قطر الندى ..

مع كل احترامي لكِ .. لكن جسدي ملك لي منذ مولد الندى و حتى موته .. أنا حرة في كل ما أفعله أثناء ذلك !

سأسمح لنفسي أن أؤجل مشروعي هذا حتى صباح غد .. فقط لأسمع كلمات وداع رقيقة منك ..

أراكِ في حياة أخرى ..

قطر الندى .. مها .

*****************************************

أيتها المجنونة مها :

إنما أنتِ بفعلكِ هذا تحولين اسم حالتنا من “فصام متقدم ” إلى ” ذهان متقدم” .. و شتان ما بينهما !

يا حبيبتي .. نحن لسنا مجنونتين .. نحن مختلفتان .. أعرف أن حياة المصح تثقل عليكِ و ترهقك ِ , لذلك أقترح الفكرة التالية التي تريحك و تريحني دونما دماء ..

سنكف عن إرسال الرسائل لفترة من الوقت .. سنوحد الشخصيتين الموحدتين أصلاً في جسد واحد ..

سنكون أنا و أنتِ تلك الفتاة غادة التي يدّعون أننا هي ..

انظري حولك .. كل الأشخاص في هذا العالم يكذبون .. لكل واحد فيهم ألف شخصية و شخصية , لكنه يظهر للعلن شخصية واحدة مميزة .. لا أحد يزعم أنه أكثر من شخص سوانا .. نحن الصادقتان الساذجتان !

أتمنى أن تقبلي بفكرتي الذكية هذه .. و عهدي بكِ أنك تنفذين الأفكار الذكية دونما مناقشة , فكوني الفتاة المطيعة التي أعرفها ..

أراك في الحياة الحقيقية ..

لهيب الشموع .. سلمى .

****************************************

أنزل الطبيب نظارته على قصبة أنفه ليتمكن من القراءة بشكل أوضح بينما كان والد غادة ووالدتها يحضرون نفسهم للأسوأ ..

نظر الطبيب إليهما من فوق نظارته و تنحنح ثم قال : أظهرت تقاريرنا أن غادة تحسنت بشكل يؤهلها لتخريجها من المصح ..

لم تعد تدعي أنها مها في الصباح , و سلمى في المساء .. لم تعد ترسل أي رسالة لنفسها ..

 أرجوكما وقعا هنا … هكذا .. أيوا … تهانينا .. و بالسلامة لها .

مشت غادة بتثاقل مع أبويها .. سيكون عليها احتمال هذه التمثيلية الكبرى ..  أجابت والديها – بإنهاك و الدموع في عينيها – عندما سألاها كيف تشعر : ” قطرات الندى تحرقني .. ! “

هديل خلوف ..

   23-2-2010

28
أفريل
10

صديقي الورق ..


رنا لا تستطيع النوم .. لقد اعتادت هذا في كل ليلة .. لقد اعتادت ألا تستطيع النوم عندما يلح عليها أمر ما ..لم تكن رنا سوى فتاة عادية , تذهب إلى الكلية كل صباح و تطير فرحاً إذا ما جاء الباص مبكراً .. في هذه الليلة أرادت أن تصبح عالمة في الكيمياء , لم لا ؟ أضاءت المصباح الكهربي الصغير و أحضرت دفترها و قلم الرصاص و الممحاة ..و بعد نصف ساعة نامت بهناء بعد أن تحقق حلمها .
” إنتي .. اللي لابسة بلوزة خضرا .. شو كنت عبقول ؟ “
استيقظت رنا من شرودها عندما سمعت صوت دكتور المادة يسألها …
” أ … آسفة ما كنت منتبهة ! ” أجابت بخجل ..
” إي تفضلي كملي أحلام اليقظة برا ! ” …
لملمت كتبها و خرجت من القاعة دون كلمة واحدة ..
(لماذا لا يتركون المرء و شأنه ؟ انتباهي و يقظتي ملك لي وحدي , أنا حرة إن أعطيت انتباهي له أو لا .. ) خاطبت نفسها بحنق ..
بدأ المطر بالتساقط .. و هرع الناس للاحتماء بأي سقف .. نظرت إلى أعلى و تنفست بعمق و تنهدت آسفة و أكملت طريقها لتراه مصادفة تحت المطر , بادرها بالسلام كما هي العادة  فغمغمت بدورها لترد التحية وأكملت طريقها .. (  آه لو يعرف الأحمق ! )
رنا لا تحب الضجيج .. لذلك صعقت عندما عادت إلى البيت لتجد أختها و أولادها الأربعة يملأون البيت حركة و كلاماً .. ( لماذا لم أخلق صماء ؟؟ ) , دخلت إلى غرفتها دون كلمة واحدة و أغلقت الباب على نفسها لتبدأ طقوسها .. فتحت النافذة و جلست إلى مكتبها الواقع قربها و بدأت بمراقبة المطر و الاستمتاع بصوت الرعد ثم أحضرت عدة الحياة الأخرى التي تحياها .. دفتر و قلم رصاص و ممحاة , بدأت بالدكتور.. ردت عليه بأعلى صوتها : أنا حرة بالاستماع إليك أو لا ..هل أزعجك بصمتي ؟ هل أزعجك بشرودي ؟ لم لا تسأل نفسك عن سبب غرقي بأحلام اليقظة في محاضرتك بالذات .. ثم لاحظ أني لم أتعدى على حقوق غيري من الطلاب عندما سرحت في أحلامي الخاصة .. لم أثرثر و لم أسبب أي فوضى .. سأخرج من المحاضرة الآن لأني أريد الاستمتاع بالمطر !
و في الخارج .. رمت حقيبتها جانباً و بدأت ترقص و ترقص تحت المطر .. الرعد يزأر و الناس يتراكضون من حولها و هي ترقص حتى ابتل شعرها و تلوثت ثيابها بالوحل .. ثم رأته .. بادرها بالسلام كما هي العادة فغمغمت بدورها لترد التحية و أوقفته لتقول له لاهثة :أنا أحبك أكثر من أي شيء في هذه الدنيا .. أنت أجمل ما حدث في حياتي كلها , هل فهمت ؟ ها ؟ ألم تسأل نفسك لم تتجمد الكلمات على شفتي كلما رأيتك ؟ ألم تسأل نفسك و لو لمرة لم أبدو غبية أمامك ؟ لا أنتظر منك شيئاً .. فقط أردت أن تعلم .. و الآن وداعاً لأني أريد إكمال طريقي !
عادت إلى البيت لتجد الضجة إياها .. صرخت بأعلى صوتها : كفى ضجيجاً كفى ! فسكت الجميع و ساد الكون الصمت .. الصمت الأزلي الذي لا تلوثه اهتزاز جزيئة واحدة حتى .. أكملت نهارها بأن أصبحت أفضل رحالة في العالم .. سافرت إلى الهند و الصين و إسبانيا .. ثم عادت عالمة من جديد , فرسامة ثم قصصية شهيرة .. و قبل أن تنام أصبحت سياسية مرموقة .. ثم نامت بهدوء بعد أن كتبت مايلي :
من أجمل النعم التي تحيط بنا هو وجود الورق و قلم الرصاص و الممحاة ..فمن خلالهم نستطيع  عيش الحياة التي نريد , ليس علينا أن نكون ذوي أهمية في عالم الواقع حتى نشعر بالرضا .. فعبر بضع خربشات نستطيع فعل ما نريد و كون من نريد ..أشكرك يا إلهي على هذه النعمة الرائعة .. و غداً علي أن أحقق أحلاماً أخرى .. مع صديقي .. الورق . 

هديل خلوف ..

6-11-2009

27
أفريل
10

ليل و أغنية ..


عمو أبو عبدو رجل طيب حقاً .. رجل في الستين هو , خط الشيب خطوطه الأخيرة و أعلن مملكته على رأسه .. تراه في الجاكيت الزيتي شتاءً و في القميص الذي لا تعرف لونه صيفاً , لقد اعتاد أبو عبدو في الصيف على السهر حتى منتصف الليل في البقالية الصغيرة التي يملكها على ناصية الطريق .. يجلب النارجيلة الصغيرة و الراديو المهترئة التي لا تزال تسمعه “أم كلثوم ” ثم يجلس خارج الدكان شاعراً بأنه يملك الدنيا و ما عليها .
إن جلساته الليلية هذه قد أكسبته في الواقع عدداً من الأصدقاء .. صرصورين ضخمين و جرذ بائس  يُشعرون أبا عبدو بأن الصحبة لم تتخلَ عنه بعد ..
اليوم قرر أبو عبدو كسر الروتين قليلاً .. اليوم مثلج جداً , لكنه مع ذلك أخرج الكرسي إلى خارج الدكان و مدفأة الكهرباء أيضاً و بعض حبات الكستناء .. من قال أنه عجوز ؟ ” هراء ! .. لساتني بعز شبابي و أستطيع الجلوس في الثلج ! ” ..
صوت قرقرة النارجيلة .. طقات الكستناء .. أم كلثوم و هي تغني ( عمري ضااااايع .. يحسبوه إزاي عليااااا ).. ندف الثلج الخجولة .. مع رائحة المعسل و الكستناء تفعم الجو .. كل ذلك جعلت أبا عبدو يشعر بالحزن و يتذكر زوجته المتوفيه التي انتقدها كثيراً حتى و هي تموت .. تذكر ابنه الوحيد المتمرد الذي لم تعجبه المعيشة هنا و قرر الذهاب إلى أوربا .. تذكر هذا فتسللت دموع متجمدة إلى عينيه ..
” يعطيك العافية حجي ” .. أفاق من تخيلاته ليرى شاباً متشحاً بالسواد , وسيم ..
” مالذي يجلسك في هذا الزمهرير ؟ أبي الله يرحمه توفى من الانفلونزا “
” يا إبني لكل شخص عمر محدد لا يزيد ولا ينقص ”
” أطال الله عمرك , لكن علينا الأخذ بالأسباب أليس كذلك ؟ “
فرقعة حبة كستناء ناضجة شقت السكون و البرد ..
قال الشاب: ” تسمح لي بالجلوس ؟ “
” تفضل يا إبني .. ”
أخذ أبو عبدو نفساً من النارجيلة و جلب كأساً زجاجية وبدأ بصب الشاي فيها ..
تناول الشاب الكأس  واستطرد : ” في الحقيقة يا عم , أنا لا بيت لي و لا صديق .. أريد تمضية الوقت هنا كيفما اتفق حتى يطلع الصباح “
” هل قاتلت أبويك فتركت المنزل مثلما يفعل الكثير من الجيل الصايع اليوم ؟ “
” ليت لي أبوين حتى أقاتلهما “
” مقطوع من شجرة يعني ؟ “
ضحك الشاب و ضحك .. فبدا الضيق على وجه العم و قال في نفسه ” جيل صايع !”
تذكر أبو عبدو شيئاً فقال له : ” لحظة .. ألم تقل منذ قليل أن أباك قد توفي من .. ” قاطعه الشاب قائلاً : ” نعم .. نعم .. لا تدقق كثيراً “
بدا عدم الارتياح على وجه أبي عبدو .. و أحس أن هذا الشاب ضيفاً ثقيلاً لزجاً لابد التخلص منه ..
(طول عمري بخاااااف .. من الحب .. و سيرة الحب .. )
” تحب أم كلثوم ؟ ” قال الشاب
” ومن لا يحبها ؟ “
” أنا ! و أجبر على سماعها كل يوم ! “
” نطفي الراديو يعني ؟! ثم ..  لم تعرفنا على حضرتك  !” قالها أبو عبدو بغضب ..
” أنا ..

طلع الصباح .. و تلاشى ذلك الضيف .. أبو عبدو لا يزال جالساً على ذلك الكرسي .. ألا ترونه ؟
كان الليل صديقه الوفي .. لم يرد أن يرحل أبو عبدو دون توديعه ..
رائحة الكستناء المحترق تلوث الهواء الوليد .. و الراديو لا يزال يغني أغنية ما .. و أبو عبدو صامتٌ جداً .. باردٌ جداً .. و .. وحيد ٌ جداً ..

هديل خلوف ..

23-4-2010




أقسام المدونة

عدد الزيارات

  • 27٬304 زيارة جميلة =)

إن كنت مهتماً بما أكتبه , يمكنك أن تسجل عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد =)

انضم مع 31 مشترك