استيقظ “أبو أحمد” متعكر المزاج على نفس ما نام عليه في الليلة الماضية، إنها من تلك الأيام التي يشعر فيها المرء بانقباض الروح من غير ما سبب واضح، حيث يغدو الإنسان فيها شديد الحساسية والتركيز على كل مالا يسر .. كملاحظة تلك البقعة مقشورة الدهان التي تتعلق بوقاحة في سقف الغرفة، أو اكتشاف أن الجيران في المبنى كلهم من أصحاب الدخل المتدني والحياة المتدنية مما يقود للاستنتاج الذكي بأنه شخصياً ينتمي إلى هذه الفئة .. وغيرها وغيرها من مظاهر البؤس. لكن صاحبنا “أبو أحمد” لا يسكن في منزل يحتوي على أية بقع مقشورة الدهان، حتى أنه لا يعرف حقاً من يسكن في المبنى فضلاً على أن يعرف ماذا يعملون أصلاً .. لقد استيقظ صباحاً ليعلن إلى نفسه أنّ “الله يلعن هالعيشة” دونما سبب مباشر ..- حميييييددةةة .. حضريلي فنجان القهوة..هرعت حميدة إلى المطبخ لتستل “ركوة” القهوة وتملأها بالماء، شعرت بالفخر وهي تتأمل الركوة ذات الزخارف الذهبية التي تذكرها على نحو ما بصبحياتها الجميلة البائدة مع جارات العمر والرضا .. لم يكن الحصول عليها بالسهولة التي يستحوذ المرء فيها على “ركوات” القهوة عادة، لقد اضطرت هي وأبو أحمد أن يعيشا ردحاً من الزمن تحت رحمة الآلة الكريهة ذات الأزرار التي تصدر أصواتاً معوية قبل أن تصب القهوة في الفنجان .. القهوة البنية “السايطة” التي لا تشبه أية قهوة قد عرفاها من قبل.. تنهدت “أم أحمد” وهي تبعد تلك الرؤى وغرفت ملعقة من البن شهي الرائحة ذي الهال.ازدرد الحاج “أبو أحمد” رشفة ساخنة حارقة وتمتم : اليوم أمر على “أبي صبحي” .. لابد أن في رأسه مشروع ما .. أعرفه نسناس ودوماً ما يكون في رأسه مشروع ما ..هزت حميدة رأسها موافقة، وهي تفكر بأن أمامها الآن ثلاث ساعات على الأقل من خلو البيت من “النق والسق”، يجب أن تستغلها جيداً بأن تخرج أعواد الحياكة فربما تنتهي اليوم من الكنزة الصوفية، ومن يدري؟ ربما تستطيع أن تفتح مشروع الكبة المؤجل عدة مرات هذا الشهر.وكما صار يعلم، انطلق الحاج ليقف في الموقف وينتظر الباص “282” كما علمه أحمد، “تذكر يا أبي أن تتأكد من رقم الباص جيداً قبل الصعود، فالباص الآخر الذي يقف عند هذا الموقف سوف يأخذك إلى مدينة مختلفة كلياً”.وكما في المرة الماضية، عدّ الرجل خمس محطات قبل أن يقرر أنه قد وصل إلى محطته المنشودة، اسم المحطة معقد وطويل شعر بالارتياح لسماعه.يرن “أبو أحمد” جرس الإنترفون ويحمحم عندما يسمع صوت امرأة، “هل أبو صبحي في البيت، أنا أبو أحمد” .. ويجده في البيت دائماً .. يأخذ الرجلان الدرب المستقيم ثم ينعطفان عند الناصية ليدخلان الحديقة .. وهناك يقضيان دوماً ساعات متواصلة في الحديث عن المشاريع اللانهائية التي سيقومان بها معاً ..نسيم بارد يمر في الشجرة الوارفة فوق الكرسي فتتساقط عدة أوراق تتراقص أمامهما في إعصار دائري قريب من الأرض حاملة معها إنذاراً مبكراً بالخريف .. الأرض العشبية تمتد واسعة بغطاء ملون بديع من أزهار منوعة لا يعرفان أسماءها .. فجأة اقترب منهما طفل يحمل كرته الصفراء وبدأ بحديث سريع منفعل معهما .. نظر الرجلان إلى بعضهما بعيون زجاجية غير فاهمة وسارع “أبو أحمد” بكلمات متعثرة وإشارات متداخلة بيديه أن يبين للطفل أنه لا يفهم لغته، تحول الطفل من الانفعال إلى البكاء الخائف واستمر بالكلام وهو ينظر في كل الاتجاهات .. ارتبك الرجلان وصارا ينظران في محيط دائرة بحثاً عن أحد ما قد يحمل عنهما كتفاً بفهم هذه اللغة العفريتية التي لم يفهماها يوماً .. بعد عدة دقائق مرهقة لاحت من بعيد امرأة مع كلبها ما لبثت أن هرعت مسرعة باتجاههما .. عوى الكلب بوجههما بعنف وتمتمت المرأة ببضعة كلمات غاضبة وهي تسحب الطفل، مع نظرات متفحصة لهما .. صعد “أبو أحمد” الباص عائداً وشعور الثقل لا يبارح قلبه، في الحقيقة فإن لقاءه مع صديقه لم يعدل مزاجه كما توقع بل زاد الأمر سوءاً .. قال له السائق جملة ما فهز “أبو أحمد” رأسه بحركة آلية يفعلها دوماً إذا ما توجه أحدهم إليه بالكلام بهذه اللغة ولم تكن النبرة سؤالاً .. أبرز بطاقته إليه كما يفعل عادة وتوجه إلى مقعده ..هاقد مرت خمس محطات والباص الآن يتوجه إلى المحطة السادسة، لكن الشوارع ليست بشوارع بيته ! بدأت كفه بالتعرق فوق البطاقة وبات الآن متأكداً أن خطأ ما قد حدث، أعاد النظر إلى رقم الباص فوجده مطابقاً للرقم المنشود .. لكن .. ماذا قال له السائق ؟!شعور الوحدة والضياع الذي لطالما شعر به وهو طفل متروك في دكان أبيه قد عاد إليه مجدداً وهو كهل في الخامسة والستين، الفرق هنا أنه لا يستطيع أن يتكلم، لا يستطيع أن يبكي .. وهو الأن في بلاد غريبة ..انتهت “أم أحمد” من البلوزة الصوفية ومن تقريص الكبة قبل أن تسمع صوت المفتاح في الباب .. لقد عاد زوجها لاهثاً مشتتاً بعد غياب النهار بكامله.. “هل عند أبو صبحي أي مشروع” ؟ قالتها الزوجة وهي تنتظر سماع الإجابة المعتادة بأن أبا صبحي ثرثار ليس عنده أية مشاريع .. لكن عينا زوجها تألقتا لثانية وهو يقول : عندي أنا مشروع ! مشروع استرداد لساني.. سوف نعود للبلد، للحارة .. !
(!)
وزالت الغمّة من صدر أبي أحمد ..
هديل خلّوف